سلام الكواكبيصفحات سورية

سوريا: بين المعارضة والمسؤولية


سلام الكواكبي

هل لا يزال يصحّ القول بعد أكثر من سنة على اندلاع الاحتجاجات الشعبية في شوارع المدن والبلدات والقرى السورية بأن حرمان المجتمع السوري من ممارسة السياسة ومن العمل العام طوال عقود عدة هو السبب الرئيس في عجز المعارضات السورية عن تقديم مشروع سياسي واضح المعالم وصريح الوجهة؟

لقد حُرِمَ السوريون، كما غالبية شعوب المنطقة العربية بنسب متفاوتة، من التمتع بأبسط الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في مجمل مرحلة الدولة “الوطنية” التي امتدت منذ إعلان الاستقلال عام 1946. وعلى الرغم من ممارستهم المتقطعة لديموقراطية فتية نسبية، إلا أن توالي حكم الانقلابيين العسكر والوحدة مع مصر، التي شوّهتها وأفشلتها الانتهاكات والصيغ المنقوصة، مهدّ الطريق أمام وصول حزب “ثوري” ذي عقيدة انقلابية ويحمل مشاريع “تقدمية” على كل الصعد. وقد وصل حزب البعث إلى الحكم عام 1963، ليقوم من خلاله الجهاز الحاكم بترسيخ ما بدأه عهد الوحدة من تأميمٍ للمجال العام وإجهاض للمجتمع المدني الناشئ وتقييد لحرية التعبير من خلال مفهومه لدور الصحافة والإعلام كأداة حرب إيديولوجية. وعلى الرغم من أن الحزب كمؤسسة إيديولوجية كان على هامش الإدارة العسكرية والأمنية للبلاد، إلا أنه كان في تلك الفترة يمارس دوره السياسي الذي انتهى مع بداية السبعينات وتم تحويله إدارة بيروقراطية تساهم في تعزيز الرقابة والتأطير للمجتمع السوري بعيداً عن أية إيديولوجية من أي نوع كان.

 وقد تم تنفيذ هذه الإستراتيجية من خلال المنع التام لكل التنظيمات النقابية والمهنية المستقلة ودعم التوجه الرقابي لما سمّاه الخطاب الرسمي المنظمات الشعبية التي أنشئ جزءٌ كبيرٌ منها في الستينات ولكن تم تعزيز دورها “التعبوي” و”الأمني” في سنوات السبعينات وما تلاها.

وفي إطار هذا المنطق، تم إتباع المشهد الشمولي الكوري الشمالي حتى وصل التأطير إلى مستوى الطفولة. وانتمى أبرياء سن الطفولة إلى منظمة “طلائع البعث” التي سعت لتأسيس أجيالٍ عدة من المكوّن السوري الاستزلامي، المتمجّد، الحذر حتى الرهاب، الساعي للمصلحة الفردية ولو على حساب كل المعايير الأخلاقية، البعيد عن الإبداع الثقافي والفكري، الذي ينشد إرضاء من بيده الأمر والحيلة، الراضي بفتات السلطة إن وقع عليه عرضاً أو تعطّفاً، الحانق على من يطوّر حسّاً نقدياً في أي من المجالات… إلخ. منظومة من المحاولات والمساعي الهادفة إلى تسخير أجيال بأكملها لاستمرار عجلة الحكم من دون منغصّات ولا مطالبات ولا طموحات.

لكن السوريين والسوريات أثبتوا فشل هذه السياسة من خلال خروجهم سلماً للمطالبة بما أملوا طويلاً بالحصول عليه تدريجاً وتفاوضياً من حقوق أساسية ووصلوا إلى اقتناع باستحالة الانتظار والترقّب والتأمّل. وقد أكّدوا أن الأجيال التي كانت تردد ما يُملى عليها من شعارات شمولية وإقصائية وتأليهية للحاكم قادرة على الخروج من قمقمها ومن أن تعبّر عن وعي قلّ نظيره دونما تأطيرٍ سياسيٍ أو إيديولوجيٍ أو تعبويٍ من أي شكل كان.

وعلى هامش الحَراك الشعبي المفاجئ، سعت قوى المعارضة التقليدية إلى اللحاق بالركب ومحاولة التأثير فيه أو وضع إطار مطلبي/سياسي لعناوينه المرتبطة بالحرية وبالكرامة وبالعدالة. ومن خلال هذا السعي، برزت مبادرات سياسية من قبل معارضين أفراد أرادوا إعادة صوغ الحراك بما يتناسب مع اقتناعاتهم الوطنية التي عملوا من أجلها ودفعوا أثماناً باهظة من القمع والسجن والتغييب والتهميش في سبيل الدفاع عنها. وأفضت المحاولات إلى بعض الهيكليات المؤطَّرة غير المؤثرة. ومن جهة أخرى، تنظّم الفاعلون الأساسيون في الحراك ضمن تجمعات عفوية ما لبثت أن تهيكلت وعبّرت عن نفسها بعيداً عن الهيئات السياسية التقليدية في محاولة للتمايز لدرء السعي لاحتوائها من قبل المبادرات السياسية.

في هذا المخاض، وضح للسوريين النقص البنيوي في الممارسة السياسية والفائض الهائل في العمل الفردي، خصوصاً لدى السياسيين المعارضين التقليديين. والفردانية في النشاط أو في التفكير أو في التنظيم ليست مجرد عاهة يمكن الشفاء منها بالتوعية أو بالتدريب. إنها نتاج سنوات من التهميش والإقصاء والشكّ والتشكيك. وتبين بوضوح الفوارق الكبرى بين من نَظَّرَ للحالة ومن نَظَرَ إليها بتواضع وبموضوعية. بين من اعتقد بأن مجتمعه، بتكويناته المتعددة وبطبقاته المختلفة وبمناطقه المتباعدة، هو صورة طبق الأصل عما خُيّل له أن يكون أو عما سعى له في خضم نضاله المشكور، ومن حاول أن يقرأ بموضوعية وعمق حقيقة المجتمع وقَبِلَ بالنتائج التي لا تتفق حتماً مع اقتناعاته الإيديولوجية المسبقة. إن الواقع والوقائع أثبتت بأنه لا يمكن في العلوم الاجتماعية تطبيق نظرية “كُنّ فيكون”.

ومن المفيد الإشارة إلى أن جُلَّ ما كتب بشكل جيد ومعمّق عن الطبيعة الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع السوري لم يترجم من لغاته الأخرى للعربية. وبالتالي، فقد حُرم الكثيرون من توسيع أفقهم عبر مراجعته وظلّوا يعتقدون بما أرادوا أن يعتقدوا به حول آليات العمل السياسي المحلية أو حول أفق التطلعات الاجتماعية التي نظروا إليها في المرآة المصقولة بالأفكار التقدمية والتحررية.

انعكست الفجوة إذا بين معارضة في الشارع تعرف ماذا تريد بجملة واحدة، ومعارضون بعيدون بعض الشيء عن الفضاء المتأجج يمارسون العصف الذهني أو التحليل السوسيولوجي المستند أولاً وأخيراً على تمنياتهم وتطلعاتهم، التي وإن اتفقنا معها، فهي لا تعكس حقيقة المجتمع ولا حقيقة عناصره الفاعلة.

الوضع السوري اليوم يحاول أن يخفف من عمق هذه الفجوة من خلال دعوة الجميع إلى التواضع وإلى النظر بعيداً عن مرآة الذات. ومن المعتقد، بأن منطلق العملية يحتاج أن تُحسن النخبة الثقافية المعارضة الظن بمجتمعها. ويمكنها أيضا السعي إلى الابتعاد عن الرغبة بتطويع المجتمع بما يتلاءم مع آمالٍ نظريةٍ عاشت عليها.

كثيرة هي الأسماء التي “قادت” نظرياً الحراك وسعت لأن تبرز من خلاله أو على حسابه. وكثيرة هي الأسماء من هذه الأسماء التي لها كل الشرعية بأن تكون ذات تأثير في عملية التراكم المعرفي والفكري المؤطرة لأي تحرك عفوي في حدود الاعتراف بالآخر. والآخر هنا هو الوقود الحقيقي لهذا المسار، أي الشعب المحتج، الثائر، المتمرد على قيود أثقلت كاهله لمدة طويلة. وفي المقابل، برزت تيارات فردية، أو تجميعية، حملت أساساً رغبة في المساهمة الإيجابية، وتحولت مع الممارسة، ونتيجة كل الأمراض البنيوية السالفة الذكر، والتي يتحمل النظام السياسي جزءاً كبيراً من ترسيخها في بنية النخب، تحولت إذاً بؤر تركّز الأنا الذاتية البسيكوباتية تقوم بنشر منتوجها اللفظي. وبدأت عملية قياس مشروعية ونيات كل من اختلف عنها أو حتى مجرد أنه لم يكن مسلّماً لها تسليماً أعمى.

ما يجري في سوريا هو عملية مشتركة لكل السوريين والسوريات والتمايز ينحصر فقط في الفاعلية والتفعيل. القادرون على فهم واقع مجتمعهم وحقيقة تطوره (إلى الأمام أوإلى الخلف)، يستطيعون أن يستنبطوا طرائق ومسارات مساعدة. ومن الطبيعي البدء بالقول بأن حجة انعدام الممارسة السياسية لم تعد صالحة لتبرير التقصير العملي والنظري. ومرور عامٍ ونيف على بدء الحراك يضع الجميع أمام مسؤولياته الأخلاقية والوطنية ويجدر به بأن يجبر الجميع على الخروج من المنطق الضيق الحذر إلى أفقِ أكثر اتساعاً واستيعاباً وإلى تبني العمل الجماعي المتجرّد والذي ينتظره أصحاب الحق والحقيقة.

باريس

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى