خولة غازيصفحات مميزة

سوريا: تفجر الدولة الأمنية ..!

خولة غازي
لم تكن سوريا بحاجة إلى أكثر من ذلك ، كي يتم التعرف إلى المشاكل البنوية العميقة بين مكونات المجتمع فيها ، حيث عمل الرئيس الراحل حافظ الأسد خلال أربعين سنة على بناء نظامه بعناية مستنيراً بنهج كيم ايل سونغ في بناء امبراطورية منيعة وغير قابلة للاختراق، تاركاً المجتمع رهين تباين رهيب ناتج عن طريقة غير عادلة في توزيع الثروات مما أدى لظهور جزر اجتماعية قائمة على مركبات الفساد والغنم السريع لمصادر الدخل القومي، تطورت لاحقاً بعض تلك الجزر في عصر الرئيس ( الإبن ) لتتحول إلى امبراطوريات مالية داخل الدولة .
لذا لن يدهشك السوري وهو يمارس أقصى ما لديه من تطرف لأفكاره سواء منها المؤيدة أم المعارضة وتشفع له سنوات الكبت والتهميش والضغط الأمني الممنهج ، الذي ازدادت وتيرته بعد ما يطلق عليها “محنة الثمانيات” تلك المواجهة الدامية التي مازال دم ضحاياها حاراً ولم تجر عملية دفن لائقة لتلك المرحلة الشديدة القسوة, لذلك كانت دائمة مرشحة للظهور تبعاً لأي ظرف ومناخ مناسب، ولهذا فإن شكل الدولة كحامية للعدالة وموفرة للخدمات والتنمية غاب رغم وجوده الشكلي منها لصالح شكل الدولة الأمني، وهذا الشكل الأخير هو ما كان يتعامل معه المواطن مع الوجه القاسي الذي انغرس في أدق تفاصيل الحياة السورية وبصورة لافتة ومقززة في بعض الأحيان، فانتشرت المحسوبيات وطغى فساد من نوع جديد منبثق من نفوذ الأذرع الأمنية الجديدة التي استهلكت أمن وأمان المواطنين فبات كلٌ يشك في الأخر.

هذا الشكل من العلاقة بين الفرد والدولة، أحدث شرخاً وأزمة في آلية وشكل التعامل بين الحكومة والقواعد الشعبية مما ساهم في زعزعة مفهوم المواطنة ومعه الوطنية ( السورية ) عند أول زلزال، وهذا ما نشاهده في كثير من الحالات الآن بعد سنة على اندلاع الثورة، حيث تجد أن غالبية المحتجين السوريين ونتيجة العلاقة غير الصحية بينهم وبين اجهزة الحكم، لا يتمسك بأي حبل للإنقاذ تقذفه له الحكومة ، لان سنوات طويلة أسست علاقة مبنية على التشكك والريبة والاحتيال والتحايل، ولم تبنى على الصدق في الوعود والنوايا، ظل خلالها لا يتعامل إلا مع الجانب الأمني الأقسى ..
وعلى ما سبق لن تتعجب من تقمص شخصية رجل الأمن لدى جميع من حمل السلاح بين المحتجين حين يقع بين يديه أحد الأشخاص الموالين ..فهذه هي صورة القوة والنفوذ بالنسبة لهم ..!
مع العلم أنه وعبر التاريخ كل نظام قام على الشكل الأمني لم يكن مصيره النجاج والإستمرار كالاتحاد السوفيتي ومصر عبد الناصر إلى عراق صدام حسين، والخيار الصحيح في بناء الأنظمة على العدالة الإجتماعية والمشاركة السياسية الحقيقية الفاعلة .
فالحالة السورية حالياً تشبه حالة الخراج الناشئ عن تعفن أحد الأسنان وهذا السن هو الحالة الراهنية للمجتمع وعامل الثقة بين الشعب والسلطة الحاكمة مما ساعد على تشُكل حالة تشبه حالة اندفاع القيح! مما يحدث تآكلاً في العظم و يحدث خللاً في الجذر ويعرض السن لقلقلة، وهذا ما يحدث عملياً، مهما بدا النظام قوياً إلا أن الجذر الأساسي والحامل الرئيسي وهي الأرضية الجامعة للسوريين قاطبة قد تعرضت لهزة قوية. وهذا ( القيح ) الذي يخرج ومهما كانت رائحته قاتلة، إلا أنه لا يمكن أن يستمر فالسوريين على مختلف مشاربهم خرجت وتخرج منهم تصرفات قد تكون لا منطقية ولكنها طبيعية في راهنية الحالة التي خرجت منها.
وما يعيب حركة السوريين “كمعارضة” هي عدم وجود جامع واحد لهم؛ إذ يحكمهم التشرذم وضبابية الفكرة والتنفيذ، واستعراض مجاني وكأنهم في سباق انتخابي لا في حركة شعبية مازالت غير منجزة النتائج على الأرض، أضافة إلى الجعجعة الكلامية الانشائية غير المبنية على رؤى استراتيجية، وغالباً ما كانت انعكاساتها غير محمودة على أرض الواقع، حتى على الصورة النهائية لشكل الثورة السورية .
فالصورة التي تصدرت بعد عام على الثورة السورية وفق المحطات الإخبارية: مجموعات خليط بين السلفية والأخوانية والاسلامية تحمل السلاح في مواجهة نظام حكم ( أقلوي) ، رغم أن الواقع على الأرض ليس كذلك كبنية مجتمع، وهذا ناتج عن غياب دور المثقف لحساب بروز رجال الدين وبروز ثقافة جديدة جامعة لسوريين خرجوا بعد فجائع بالدم عند خروج كل مظاهرة وتنكيل ممنهج حين الإعتقال قد يفضي إلى القتل، فالحامل الأساسي للحركات الإحتجاجية هي من قاطني تجمعات سكانية غابت عنها التنمية، وتركت من قبل الحكومة لسنوات رهينة قوى محلية ناشئة بفعل الفساد والمحسوبيات .
وعلى الرغم من أن المثقفين خرجوا كغيرهم من الجامع في بداية انطلاق الإحتجاجات، إلا أنهم فشلوا في أن يكونوا رافعة ناهضة للحراك لغياب مشروع حقيقي تنموي ونهضوي يكون بمثابة ناموس للحراك مما أحدث هوة قد يصح القول أنها طبقية بالمعنى التراتبي وليس المادي بينها وبين القاعدة الشعبية الحامل الأساسي للحراك الجاري، فاكتفى المثقف بدور التابع والمتتبع والمردد لصوت الشارع، بينما في المقابل تنظمت جموع القواعد الشعبية وأصبحت لديهم ثقافة منفصلة وهيكلية خاصة لا علاقة لها بالنخبة وبرز دور الناشطين في جميع مناطق الاحتجاج، ولعب النظام على مسألة غاية في الخطورة وهي افراغ الساحة من الناشطين السلميين وترك الشارع للناشطين الأقل تعليماً وثقافة مما أنتج شكلاً مغايراً وثقافة قد يختلف معها كثيرون ،ولكن تمت مسايرتهم من قبل النخبة التي أضحت سلبية الى حد بعيد.
لذا كان خطاب البعض وخاصة المجلس الوطني ينطلق من الإرتكاز على خطاب تلك الجموع كي يكتسب شرعية، فلم يأخذوا دوراً ريادياً بل كانوا أشبه بمرددين وببغاوات ، فغابت الحلول وتصدرت الخطابات الفضفاضة في ظل تصاعد الحل الأمني والعسكري وخيار التسلح وتشكيل كتائب الجيش الحر.
وقد برزت خطابات وشعارات أساءت أكثر مما افادت في جذب الفئة الصامتة، والأقليات على وجه الخصوص، وكان ذلك ناتجاً عن فئات غير مدربة بالأصل على العمل المدني يحكمها غضب التمييز وغياب فرص العمل وانعدام التأهيل العلمي الكافي، فجيوش العاطلين عن العمل والحالمين بالتغيير كانت محركاَ أساسياَ لغضب غالبية أرادت التغيير، فخرجوا على إيقاع انتصارات الثورة المصرية والتونسية ، على هدي لحظة تاريخية اعتقدت معها شعوب كثيرة ومنها من خرج من السوريين أنها مسألة ايام وينتهي الأمر وتعود الحياة لطبيعتها ، إلا أن طول المدة وقسوة الحل الأمني أوصل الأمور إلى طرق شبه مسدودة، خاصة بعد دخول الدعاة ورجال الدين على الخط إضافة إلى دعوات الجهاد التي اطلقت في الثلث الأخير من العام الأول للثورة السورية .
على الأرض وبعد خيار التسلح دارت معركة غير متكافئة ، ضحيتها للأسف هي مكونات الشعب كافة. فطالت الجنازات سوريا عامة، موت تدفع فاتورته فئات الشعب المسحوقة بالأساس ، فئات تتشارك مع من تختصمها الآن على حلم الحياة كريمة، غير المغمسة بالذل والإهانة ،
بالنهاية لن يفيد السوريين إلا السوريين ، ولن يسقط النظام بالسلاح ، بل بالسلاح سوف تسقط سوريا كوطن وأرض، إن غياب المشهد عن رجال دولة ورجال فكر حقيقيين، سوف يساهم في خلق بلبلة اكثر وفي جر من يعتقد أن خلاص سوريا بيديه إلى أتون المجهول.
كان خيار استخدام علم مغاير للعلم الرسمي للدولة، اختياراً غير مناسب ، فالثورات العادلة تحتاج إلى رمزيات جامعة لا مفرقة، وعملية خلق علم جديد لم تكن بالفكرة الحسنة، فلا الثورة التونسية قامت بتغيير علمها ولا المصرية ولا اليمنية ، وحدها الليبية وهي النموذج (السلبي) هي من فعلت ذلك، فوجود شعب واحد تحت راية علمين غير مفيد إلا في حالة التقسيم ، ولا أعتقد أن أحداً خرج للتظاهر وهو بوارد هذه الأفكار .
إن مفهوم الوطنية يحتاج إلى كثير من التأمل في الحالة السورية الجديدة ، هناك شرخ ورفض من قبل المعارضين والمحتجين لكل ما فرضه النظام خلال السنوات السابقة ، وبرزت حالات استفزازية من كل الأطراف ، ولكن بالنهاية وكسيرورة تاريخية سوف تتشكل بنية جديدة للمجتمع السوري ، وعلى من يحب سوريا أن يعمل على تقريب وجهات النظر لا على الأخذ بخطاب التخوين والإقصاء إلى الأخر، فهذا لن يفيد أحد ، ولا يمكن أن يؤسس لنهضة مدنية في أي بلد إنهامرحلة قد تطول ولكنها تحتاج لجهود السوريين جميعاً في تبني خطاب باني ومؤسس ، وبعدم الإنجرار وراء خطاب العواطف ، فالجرح النازف هو جرح السوريين جميعاً، واستمراره قد يحيل البلاد الى سراب .
فسوريا ليست موقعاً للتواصل الاجتماعي تتعمر بالضغط على كلمة أعجبني ولا الطرف الأخر مستخدم من السهل الغائه من قائمة الأصدقاء .. سوريا واقع مادي وليست واقعاً افتراضياً .
موقع جدار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى