صفحات مميزةعزيز تبسي

سوريا: تَخيَّل رمضان وعِشْ آخر/ عزيز تبسي *

 

 

 

القمر كوكب غادر بالمواقيت، فيعجز الشهر عن تثبيت التطابق مع اسمه الذي طالما استخدم للتأكيد على تقارب الخيارات وتوحدها، حين جرت وتجري طلبات الاستجارة الخائبة من الرمضاء بالنار. يسعى إليه أناس من ذوي البصر الفلكي الحاد، وهم بالكاد يرون الأرض المحروقة التي يقفون فوقها وجراح أهلها الحازمين حقائبهم، وقد عزموا الترحل في الأرض الواسعة، علهم يحظون بمن يتحنن عليهم بملعقة من الكرامة ومثيلتها من الحرية وضماد من الأمان والكفاية.

لا يؤذن بشهر رمضان تدفق باعة شراب العرقسوس والتمر هندي، وكعك “المعروك”، وعمارات من أطباق الحلويات، وبيادر من النقولات والفاكهة والتمور لانتزاع الأسبقية في احتلال الأرصفة ونواصي الشوارع، ولا الاحتلال الآخر الذي تتكفل به مئات المسلسلات الدرامية والبرامج الترفيهية.. كل ما يحصل في هذا المهرجان يتوخى صنع رمضان، كما هي الطبول تدق لتصنع العرس. يجب أن تصوم أو تتظاهر بالصيام على الأقل، كممارسة ضرورية للعيش بسلامة شكلية وتوافق مع المحيط. كما يجب ألا تكتفي بالصيام، بل بمراقبة غير الصائمين، لا بغاية إرشادهم بالحسنى للأخذ بها، بل بقصد إزعاجهم وإرباكهم وإهانتهم..

ويبقى من لا تفارق عيونهم الشفاه الجافة من العطش ساهين عن مراقبة أدراج الموظفين وجيوبهم المبللة بالرشى، والباعة الذين يروجون لأطعمة لا تصلح لأي استخدام في شقيه الآدمي والحيواني. باتت رائجة منذ سنوات مظاهر التمسك بالورع والتقوى، وهي غير مكلفة للصائم ولا لمدعي الصيام. وقد أمست تتنزل في باب التمارض الذي تمرس به الموظفون الخمولون والجنود الذين يؤدون الخدمة الإلزامية، بغاية الحصول على إجازات. والحالة في رمضان تتنزل في باب التصاوم أي إدعاء الصيام، مستعينة بالقدرة والخبرة المؤسستين على تراكم في تجارب التمرد السلبي… كل ذلك أو بعضه يؤكد العجز عن التمسك بالقيم العميقة التي أنتجتها طقوس الصيام ومعانيه، كشكل نمطي للتزهد في الدنيا، وترقب ولوج بوابات جنائن الآخرة، أي العجز عن نقل التزهد إلى الحيز العمومي، ليبقى من الخيارات الفردية. لا نجازف ولا نجدف إن قلنا إن الرأسمالية – الريعية – الطفيلية ابتلعت رمضان كما ابتلعت غيره من الطقوس الدينية، وهذا ما يجاهد الأوصياء على الصائمين لإنكاره وإظهار نقيضه.

لم يعد مجدياً تقريظ رمضان الذي يمتدح في تاريخ وممارسات يجري تخيلهما وإعادة اختراعهما، والعمل على استعادتهما بشكليات متهافتة تبدأ بولائم إمبراطورية يحسب من يعرضها ويروج لها على شاشات التلفزة أن النظر إليها كاف لدحر الجوع وإذلال الفاقة التي تساكن الشعوب المغلوبة..

ولا تنتهي بعشرات العروض الترفيهية والمسلسلات الدرامية التي لا تنسي آلام الجوع فحسب، بل تنسي من يتابعها جغرافيا الهوان المرمي في أعماق أخاديدها. يصر الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، الواجهة الأيديولوجية للرأسمالية الريعية – الطفيلية، على تكرار فضائل الصيام بدأب، للتأكيد على أنه الوريث الشرعي والحارس الأمين للقيم التي أنتجت الصيام، وثبتته كركن من أركان الدين.

الصيام ممارسة دينية قديمة، اتخذت مع الزمن سمات طقسية، توخت إخماد حاجات الجسد الأولية المتمثلة بالطعام والشراب، وتوجيههما نحو تسام تأملي في الطبيعة وعناصرها، كما في التجربة الذاتية وملامحها، سواء باستقامتها أو بانحرافاتها، كفعل تنظيفي تطهري، يرتفع ويترفع عن المتطلبات اليومية التي يفترض أنها تستنزف الجسد وتخرب المثل الأخلاقية، بعد أن تدخل امتحاناتها القاسية التي تعرضها على الدوام لضروب من التراجع والنكوص.

***

يمشي العجوز الهوينى، متكئاً على حفيدين خجولين، يحاولان ضبط ارتجاف كفيه، حين يرتفعان ليشيرا إلى أناس يعبرون أمامه كخيالات شاحبة، يحسبهم أصدقاء قدامى، ويسعى إلى تذكر أسمائهم.. كما يثبتان مساره المختلج المتجه تارة إلى أناس واقفين في الصالة ينتظرون استدعاءهم لإتمام استمارات وتارة إلى أناس مغادرين من البوابة التي دخلوا منها، ويقودانه إلى أمام الطاولة التي يجلس خلفها شاب، منحنٍ على أوراق، يدوّن عليها أسماء طالبي المعونة الغذائية وأرقام بطاقاتهم الشخصية ومكان إقامتهم. وعلى الرصيف المقابل للصالة رجال ونساء وأولاد يحملون أوعية بلاستيكية يغطونها بأكياس نايلون سوداء، ينتظرون برؤوس مائلة على صدورهم، الوجبة المجانية التي يقدمها المطبخ الخيري الذي بدأ العمل قبل رمضان واستمر معه..

قبل ارتفاع آذان الإفطار لإتمام اليوم الثالث من رمضان، أعلنت المنظمات الحقوقية والصفحات الإعلامية أن عدد القتلى وصل إلى مئة، والجرحى إلى خمسمئة، فضلاً عن الدمار في البيوت والمنشآت والسيارات. هم منتوج ألف قذيفة رميت على الجهة الغربية من حلب، ولا نستطيع تبين ما نتائج رمايات البراميل وقصف الطيران في الجهة الشرقية من المدينة. يعني ذلك أنه غادر موقعه المنتخب كشهر من الأشهر الحرم، الذي يتوجب فيه وقف القتال والغزو والاحتراب…

تتهادى أصوات أطفال كأنها آتية من زمن خلا، حين كان الهواء يتسلل كنسيم يفتح الصدر كنوافذ، لا كسكين تمزقه وتنتزع أحشاءه، “أهلاً أهلاً يا رمضان شهر الخير والإحسان”. حينها كان يتهدل قميص الأفق، وتُنتزع ياقته وأكمامه، ويهرع صاخباً إلى مسارات الفرح.

* كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى