صفحات سوريةنجيب جورج عوض

سوريا.. ثورة أم حرب؟


حين يهدم الحرّاس الهيكل ليصيروا كهنته

نجيب جورج عوض

لا يسع المراقب لتطورات الثورة السورية في الشهرين الماضيين بالتحديد إلا أن يستنتج أن كافة الحلول السياسية للأزمة السورية قد آلت للفشل، فقد راحت تتهاوى أصوات الداعين لحلول سياسية أو المؤيدين لضغوط دولية أوعربية أوأقليمية أواتفاقيات ومبادرات متعددة الأطراف أو أو، كما تتهاوى أوراق الخريف على الطرقات الخاوية. دخلت الثورة السورية شتاء طويلاً جداً يخنقه الدم والموت والعنف والعنف المضاد والقتل. بدأت الثورة كحراكٍ سلمي لشعبٍ متعطشٍ إلى الحرية والكرامة والمستقبل، وتحولت إلى معاناة قاسية وقمع وعنف عسكري أمني دفع المواطنين إلى الدفاع اليائس القسري عن النفس والحياة والعرض والعائلة والحق بالوجود الإنساني بكل الوسائل التي طالتها اليد، وأولها السلاح. إلا أنها راحت تتحول في الشهور الأخيرة إلى حرب ضروسٍ طاحنة لا صوت فيها يعلو فوق صوت المعركة، ولا كلمة فيها إلا للسلاح والموت، ولا قانون فيها إلا قانون «إما قاتل أو مقتول»، ولا «ثائر» فيها بل «مقاتل»، ولا «متظاهر» فيها بل «مقاوم»، ولا هدف لها سوى تحطيم النظام المجرم السفاح والبشع والانتقام منه. أما صوت الثورة الأساس المنادي بالحرية والعدالة والكرامة والديموقراطية والدولة المدنية فقد اختنق بيد الدمار الكامل والشامل لسوريا البلد والشعب والكيان والدولة.

في الفترة الراهنة، ترافق خفوت صوت الثورة في قلب تعالي قعقعة المعركة وصراخها مع اندحار الخطاب الثوري السياسي، والعمل الدبلوماسي والعلاقاتي والتخطيطي الفاعل والملحوظ لمختلف المعارضات السورية، بل وانحسار الاهتمام والإصغاء في الأوساط السورية والعربية والعالمية لكل ما يمت بصلة لخطاباتها المعلنة. حدث هذا النكوص المبين بيد أولئك المعارضين أنفسهم قبل سواهم، والذين، بدل أن يحموا الثورة ويدعموها ويقفوا في الصفوف الأمامية لعملية من أجل الاشراف عليها وإرشادها، باتوا اليوم يقفون بالكاد في الصفوف الخلفية الهامشية ويحاولون بالجهد الجهيد أن يقدموا أنفسهم كأتباع وخدام ورعايا عملية استبدالها بالقتال والمعركة المفتوحة، التي بات فيها المواطن السوري دريئة الصراع الميداني الأولى والمسدد الأول والأساس لفاتورة المعركة من دمه وحياتها، من ممتلكاته. وبات مصير المعركة، من مصيره ومن لقمة عيشه، لا بل ومن وجود الإنسان السوري برمته. من يراقب الإعلام العربي المرئي والمسموع والمكتوب يلاحظ انحسار حضور الوجوه المعارضة السياسية، وعدم اكتراث أي طرف من الأطراف، المعنية بالشأن السوري، بالاستماع لرأيها، أو بالالتفات لمحاولاتها، وجهودها المناهضة للنظام، أو لأي شيء تقوم به من نشاطات ولقاءات ومحاولات، وما تطلقه من مواقف وبيانات. كل أوساط الإعلام العربي والعالمي تركز اهتمامها وتسلط أضواءها هذه الأيام على نقل تقارير الكتائب المقاتلة على الأرض، وعلى تسويق خطاب التنسيقيات الداخلية، كونها تعمل على تماس مباشر مع المقاتلين والكتائب المسلحة، في حربها الضروس مع النظام. بات المقاتلون هم الناطقون باسم سوريا الثائرة، ولم يعد هناك صوت مدني فعلي يمثل صوت الثورة. ما عاد أحد يكترث لمؤتمر أو لبيان أو للقاء أو لموقف أو لرأي يصدر عن أي طرف من أطراف المعارضة السورية، الداخلية والخارجية. وما عاد لهؤلاء حضور ملحوظ أو ذو قيمة يعوَّل عليه في مشهد الحالة السورية الحالية.

أسمح لنفسي بالقول إن انتصار السلاح وتفرد خيار المعركة بالساحة لا يبرهن، في الواقع، على أنَّ الثورة السورية نجحت بالاستمرار والحفاظ على وجودها كل هذه الشهور في وجه النظام المجرم، أو أنها برهنت للعالم على نجاحها الباهر، في الوقوف في وجه الآلة العسكرية الدموية الساحقة. لا شك أن النظام السوري كبنية وككيان وكتأثير قد سقط أمام الثورة السورية الشعبية العظيمة، ولا شك أنه بدأ هذا السقوط المبين منذ لحظة درعا الخالدة. ولكن، الدليل على هذا لا تمثله الحرب الدائرة اليوم في كل مدن وقرى وشوارع وأطراف سوريا بين الكتائب المقاتلة تحت اسم «الجيش السوري الحر» وقوات النظام. فالسؤال الأساسي هنا هو: هل تلك الكتائب هي الثورة، وهل «الجهاد المسلح» و»الثورة» شيء واحد أو وجهان لعملة واحدة، أم أنهما ضدان وحالتان مختلفتان بالطبيعة والذهنية والهدف، ناهيك عن المآلات والنتائج؟ جوابي على هذا السؤال هو أن انتصار السلاح وخيار المعركة في سوريا يعلن في الدرجة الأولى عن فشل سياسي واستراتيجي وعملاني كامل وذريع وفاضح، لا بل وتاريخي، لكل أطياف وأجسام وتيارات وشخصيات المعارضة السورية، سواء الخارجية منها أو الداخلية، مجالس أم هيئات، أجسام أم حراكات، أفراد أو شخصيات أو رموز، قديمة تقليدية أم شابة راهنة، أصيلة أم طارئة. كلها فشلت فشلاً ذريعاً في خدمة الثورة ورعايتها أو في خلق هوية سياسية وشعبية ووطنية وقيميَّة لها. فشلت المعارضة السورية، لا بل وفشلت فكرة المعارضة السياسية في سوريا وسُلِبَت وجودها في ساحة الثورة السورية، التي تحولت إلى حرب.

بالكاد، بل وبالجهد الجهيد، نسمع اليوم عن أي موقف سياسي أو دبلوماسي أو ثوروي جديد أو حقيقي، يمكن التعويل عليه من أي طرف من أطراف المعارضة السورية، ولا حتى طرفيها الأكثر بروزاً. فهيئة التنسيق غرقت في الرمال المتحركة لهوسها بانتزاع اعتراف بوجودها ودورها وفاعليتها في الثورة من قبل أطراف المسألة في الداخل والخارج. أما المجلس الوطني فغرق بدوره في الرمال المتحركة لأدائه الغوغائي المراهق سياسياً والمتهافت مؤسساتياً والفضائحي تنظيمياً وبشرياً. أما باقي التيارات المعارضة والأفراد فلم نأخذ منهم سوى التنظير والسفسطات والنرجسيات واحتقار العقول، إما انطلاقاً من، أو بالتعويل على، اللعب بالعواطف وتحفيز المشاعر والغرائز بكل أنواعها، أو إغراق الرأي السوري العام في ثقب أسود من الكلام الفوقي والتنظيري أوالاستهلاكي أوالمنافق أوالمخادع أو المهادن أو المتملق.

لم يعد صناع القرار في العالم، كما هو واضح، يستمعون لأي من تلك المعارضات أو يعّولون عليها أو يأخذونها بعين الاعتبار. خرجت المسألة السورية برمتها من يد من قدموا أنفسهم على أنهم الممثلون الوحيدون الرسميون للثورة السورية أمام الجميع؛ من يد من كان يُفترض بهم أن يكونوا فعلاً لا قولاً الرافعة السياسية والتنظيمية والتمثيلية والمؤسساتية والتأسيسية والتقويمية الأساس للثورة السورية. غرقت الثورة السورية في بحر الدم والموت والدمار الشامل، وغرقت معها كل المعارضات السورية وادعاءاتها التمثيلية والمرجعية في طوفان المعركة. نجح النظام بإصراره على القتل والعنف والإجرام بأن لا ينحدر لوحده إلى هاوية موته، بل أن ينحدر إليها ويدُفن في مزبلة التاريخ هو ومعه كل المعارضات السورية، مُخرِجاً إياها، كما نفسه، من معادلة المستقبل في سوريا.

واحدة من أهم دلائل انهيار المعارضات السورية وفشلها الفادح والذريع هو حلول ما يسمى بالجيش الحر محلها في قلب دائرة التخطيط وصنع القرار حول سوريا ما بعد الأسد. طلع علينا الجيش الحر ومجالس الكتائب المسلحة منذ فترة بمشروع متكامل عن سوريا ما بعد الأسد فيه بنود ومشاريع سياسية وقانونية ومدنية وتشريعية واقتصادية ودولتية تتعلق بطبيعة السلطة في سوريا الانتقالية. بات الحوار اليوم في غرف العمليات المتعلقة بالحرب في سوريا والتخطيط لمجرياتها ومراحلها يدار من قبل رجال الأمن والمخابرات والعسكر والمقاتلين والمخططين العسكريين الاستراتيجين الأجانب والمحليين. بات مصير سوريا بين يدي المقاتلين والكتائب المسلحة؛ لا مصير الصراع مع النظام فقط، بل، وهذا هو الأخطر، مصير سوريا في المستقبل. كل ما كان يفترض بالمعارضات السياسية أن تقوم به وبتطويره وبلعبه من دور تخطيطي وحواري وتأسيسي وعملياتي كي يكون هو بنية سوريا البديلة، يقوم اليوم القادة المشرفين على العمل العسكري الحربي بالإشراف عليه والتقرير فيه (ولنتذكر أن المقاتل يعرف كيف يواجه الموت، لا كيف يصنع الحياة). بات «الجيش الحر» ومجالس قيادات الكتائب المسلحة تلعب دور الصانع والراعي لعملية خلق سوريا القادمة، ولم تعد مجرد مدافعٍ عن الشعب وحارسة له (أية حراسة وحماية والشعب بات دريئة تلك الكتائب وخط دفاعها الأول؟) باتت الأوساط الدولية الداعمة للحراك السوري تتعامل مع الكيانات المقاتلة، ممثلة بمن يمولها ويدعمها وينظر لها ويمدها بالديمومة، لا كأداة لإسقاط النظام فقط، بل وكعرَّاب وصانع البديل الوحيد والواقعي والقادر لسوريا المستقبل. باتت حلقة التفكير والتخطيط والتحضير لسوريا ما بعد الأسد تضم فقط من جعلوا من المشروع البديل عن النظام في سوريا مقاومة مسلحة، لها استطالات تمثيلية تأتمر بها وتخدم مشروعها، كما تخدم من حوّل الثائرين في سوريا إلى مقاتلين والصرخة السلمية الحرة إلى سلاح مقاوم واستشهادي.

نعم، لم يعد هناك ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة في سوريا. هناك فقط حرب مفتوحة، شعواء ومدمرة. نعم، لم يعد هناك صرخة حرية في سوريا، بل صرخة «النصر أو الشهادة». نعم، لم يعد هناك النظام الذي نعرفه في سوريا، فهو انهزم وسينهار قريباً إلى غير رجعة. ولكن لم يعد هناك أيضاً أي حضور فعلي أو ملموس لأي نوع من أنواع المعارضات السياسية والمدنية في قلب فضاء إرهاصات ومآلات المشهد السوري. حاول النظام أن يلعب دور شمشون وأن يهدم الهيكل عليه وعلى المعارضة المعادية له. ولكن، للأسطورة التوراتية الشهيرة نسخة مختلفة في سفر سوريا: من هدم الهيكل على رأس شمشون وأعدائه، بل على رؤوس الجميع، كانوا حراس الهيكل؛ أولئك المنوط بهم حماية الهيكل من عنجهية شمشون ومحاولته تهديم الهيكل على رؤوس الجميع. حراس الهيكل السوري هم من هدمه على رؤوس الجميع. وقريباً سنسمع أنهم لم يعودوا حراسه فقط، بل باتوا كهنة الهيكل الجدد، والناطقين بدينه والحاملين لمفاتيح أبوابه.

تمضي سوريا نحو موت ودمار وحالة من النهلستية الوجودية والانطولوجية والدولتية والمصيرية الشاملة والمؤجلة الختام على الطريقة الديريدائية (من جاك دريدا) حيث الخاتمة تكمن دوماً في عدم تحققها، وتأجيل وصولنا إليها وانفلاتها من أفق إدراكنا، أخروياً ولا نهائياً. وكلما استمرت هذه الحالة، ترسخت أكثر حقيقة تفكك المعارضات السياسية، من جهة، وحقيقة تعزيز الواقع المسلَّح والعسكري وهيمنته على صنع القرار ومشروطاته، وسيطرته لا على الواقع الميداني فقط، بل وعلى المشهد السياسي والدولتي المستقبلي لسوريا ما بعد الأسد. في ظل هذا الواقع الجديد المهيمن، وفي قلب سيرنا في تشييع جنازة كل المعارضات السورية، أو إذا شاء البعض، في ضوء وقوفنا أمام مشهد الحرب الدائرة في سوريا وازدحام الشوارع السورية (أو ما بقي منها) بالمقاتلين والكتائب وجولات القتال حتى الموت، عوضاً عن امتلائها بالمواطنين السلميين الأحرار والتظاهرات والاعتصامات والحراكات الجماعية التي بدأت بها الثورة وأدت إلى هزيمة الخوف والخنوع إلى الأبد في قلوب الناس.. يتساءل أمثالي الذين وقفوا من دون تحفظات، وبكل الروح والعقل والطاقات والقيم والوطنية التي تضج داخلهم، هل مازالت الثورة السورية على قيد الحياة؟ هل من سينتصر على نظام القتل والإجرام والفساد والوحشية هو ثورة شعب سوريا البطل، أم معارك مجاهدين وصراع مقاتلين؟ هل سيعيد بناء الهيكل خدامه الأصيلون المدنيون السياسيون والمواطنون الأحرار السلميون، أم حرّاسه الذين هدموه على رأس من قرر أن يحطمه على نفسه وعلى كل من يعاديه؟ أي سوريا ستخرج من جعبة المقاتل الحربية ومن جيوب بزة المجاهدين؟ أي سوريا ستولَد من المعركة الجهادية، بدلاً من النضال الثوروي السياسي؟ أي سوريا يمكن أن يؤسسها المقاتلون بعد أن فشل المعارضون في خدمتها؟

في سوريا المستقبل، أنا السوري الليبرالي المسيحي، الذي يؤمن بعلمنة الدولة وتعدديتها ومدنيتها الصرفة، والذي يدعو لاحترام أديانها وحريتها، في سوريا المستقبل تلك لا أخاف من الإسلام السياسي، بل يرعبني السلاح السياسي؛ لا أخاف من المعارضة الأيديولوجية، بل أخاف من أدلجة التسلح وتدغيم (من دوغمائية) العسكرة؛ لا أخاف من الثوار وأحلامهم مهما كانت جامحة وحماسية، بل أخاف من عنجهية المقاتلين واشتراطاتهم؛ لا أخاف من التنافس على السلطة ومن انتصار من لا يحمل مبادئي وأفكاري وتصوري لسوريا المستقبل، بل أخاف من الذي ينتصر بفضل سلطة الاقتتال وسطوة الأقدر على الجهاد، لأنَّ من لا يعرف سوى الجهاد والقتال لا يحمل لا أفكار ولا تصورات بل مسلمات وفرائض؛ لا أخاف من تعدد وشرذمة الرؤى والمشاريع السياسية، بل ارتعد من دمج كافة المشاريع واختزالها بعقيدة جديدة، يفرضها من يعتقد أنه بسبب قتاله وتضحيته بالغالي والثمين في أرض المعركة نال صكاً بملكية البلد، وبتقرير مصيرها، وبات يعتقد أنه وحده يقرر لمن يعطي وماذا يعطي؛ لا أخاف على سوريا ما بعد المعركة من هيمنة بدائل سياسية أحادية أو جمعية أو»نيو-شمولية» يقودها جموح جارف للسلطة، بل أخاف على سوريا من أن لا تتمكن من الخروج أبداً من ذهنية وظروف وقوانين وردود أفعال حالة المعركة ومنطق الاقتتال و»العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم». أحلم بسقوط النظام البارحة قبل الغد وأنتظر خروج رموزه إلى مزبلة التاريخ، ووصولهم إلى قوس العدالة. لكنني أرتعد وأنا أرى في الأفق كابوس سقوط وأفول المعارضات في سوريا، وفشل مشاريعها الثوروية. يخيفني أفول شمس الثورة، وبزوغ ليل المعركة الداكن. يخيفني أن حراس الهيكل بدأوا يعدّون أنفسهم ليصيروا كهنته.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى