صفحات سوريةهيثم مناع

سوريا: ثورة أهل المواطنة لا الثورة المذهبية


هيثم مناع

تتوالى الأخبار القاتمة من مدينة حمص، بعد أربعة أشهر من هيمنة المقاومة المدنية على أشكال الرد الأخرى على التوحش الأمني، تدخُلُ أشكال عدة للعنف من المجتمع ضد المجتمع، ويتبلور تحالف المصالح والأهداف بين كل ذوي الأجندات الخاصة لمذهبة الصراع. فهل نجحت الأجهزة الأمنية في استدراج المقموع الى برنامج القامع باعتبار هذا الاستدراج نحو التطرف والطائفية هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الديكتاتورية؟

اسامة الطويل، خلدون الاسود، صدى حمزة، ماجد حبو، محمد اسامة عمار، محمد السلمان، محمد ذياب، ناصر الغزالي، وليد خليفة،

حتى لا نسقط في الصورة التبسيطية التي تجعل من سوريا ما قبل البعث جنة حوّلها انقلاب الثامن من آذار ومن ثم آل الأسد جحيماً، من الضروري التذكير بأن الدولة السلطانية قد شجعت خلال قرون تكوين الملة والطائفة والعشيرة باعتبارها الأجسام الطبيعية لإدارة العلاقة بين المجتمع الواسع والسلطة المستبدة. ذلك رغم وجود نوع من الإدارة الذاتية اعتمد على التكوين العضوي والعصبي التقليدي. ومهما سعى المدافعون عن مبدأ “الخلافة التي لا تخطىء” الى تجميل صورة الرجل المريض، فقد كانت الخلافة العثمانية ظالمة في علاقاتها السياسية بالمختلف مذهبيا ودينيا عن ملة الحاكم، هزيلة في تكويناتها المدنية، لصوصية في علاقاتها الضرائبية، عاجزة عن التجدد والتقدم الذاتي، بحيث صارت “أحسن قراراتها” تلك التي تصدر بضغوط خارجية.

الدولة الاستعمارية لم تكن أحسن حالا لأنها لم تعتمد قيم نهضتها أو ثورتها، بل قواعد استمرار هيمنتها. لذا كان العمل المؤسس للدولة السورية الحديثة ابن حركة ثورية تحررية داخلية حملت الجميل من تراثها والمفيد من عصرها: الوطنية الجديدة التي ولدت في إطار الصراع ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية في العشرينات على أساس قيم الثورة السورية الكبرى الموحدة للمجتمع السوري بكل مكوناته، نجحت في بلورة معالم للشخصية السياسية والثقافية السورية أبرزها قبول مدنية الدولة، وفق عقد اجتماعي يستند في واحدة من أهم ركائزه الى مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، وبالتالي ولدت سوريا المستقبلة بمؤسسات برلمانية ضعيفة وثقافة مواطنية مدنية ناشئة لم تلبث حرب فلسطين أن أعادت لها البعد الوطني على حساب البعد المواطني. وليس من الغريب بعد النكبة، أن تكون سوريا والبلدان العربية من أقل دول العالم اكتراثاً بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

لقد إغتال خنجر اسرائيل عمليات النمو الذاتية للمواطنة والدولة الديموقراطية عبر جر دول المواجهة الى مواجهة اضطرارية مع دولة لا تختلف عن القاعدة العسكرية الحديثة إلا ببعدها الاستيطاني السرطاني. وبهذا المعنى يمكن أن نتابع حركة العسكرة في استلام الحكم وفي توسع المؤسسة العسكرية في مصر وسوريا. ولقد لعبت الإنقلابات العسكرية دون شك دوراً كبيراً في بلورة عقلية تسلطية تفكر في القدرة على السيطرة على الجيش كوسيلة للاستمرار في الحكم، مهما كانت الإيديولوجيات جميلة وجذابة، دينية أو دنيوية.

لقد هدمت الديكتاتورية السياسية كل البنيات الناشئة للمجتمع المدني والدولة المدنية، وتركت الناس تلجأ لخيمة التدين وكوخ العشائرية بعد رفع كل أشكال الحماية عن الفرد واغتيال حقوق الأشخاص وحرياتهم عن سابق إصرار وتصميم. وليس بغريب في هذا المعمعان أن توظف العلاقات العضوية وتستغل القضية الطائفية بشكل تغطي فيه على تجمع المصالح الأمني العسكري المهيمن على السلطات الثلاث والبنيات الحزبية والنقابية المرخص لها في البلاد. ولا نستغرب أن تكون البيئة الحاضنة للطائفية قد تنامت في حالة التصحر السياسي والفساد الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والإفقار الثقافي التي سادت البلاد.

لقد سجل الشباب السوري عودة الشعب الى التاريخ وعودة البلاد الى الحياة، وكلما كان اوكسيجين الثورة أعلى، تراجعت الطحالب واحتضرت الطفيليات. لقد حملت انتفاضة الكرامة قيماً كبرى في الثورة أعلى، تراجعت الطحالب واحتضرت الطفيليات. لذا حملت انتفاضة الكرامة قيماً كبرى في مواجهتها لسلطة التسلط ومنظومة الفساد، قيماً تعتمد المقاومة المدنية السلمية في وجه المقاربة الأمنية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، المطالبة بدولة ديموقراطية مدنية قوية في وجه أي تعبير من تعبيرات الطائفية، إحياء مفهوم المواطنة وسيادة الوطن منعاً لكل تدخل خارجي في مسار التحول الثوري السلمي الى الديموقراطية، ورفض أي شكل من أشكال العنف، ورغم فداحة الخسائر، بقيت الغالبية العظمة من أبناء الحراك الثوري المدني تؤكد على هذه الثوابت وترفض الإنزياح عنها، لاعتبارها بكل بساطة، مؤشر انتصار للماضي الديكتاتوري على المستقبل الديموقراطي وعلامة تراجع عن أهداف نبيلة لا يمكن بدونها، تحقيق تحول ديموقراطي فعلي وبناء شبكات علاقات مدنية مواطنية جديدة وتأصيل القطيعة مع الإستبداد والفساد ومنتوجاتهما السلوكية والثقافية.

لم تبدأ الإنحرافات الطائفية عن مسار الثورة الديموقراطية المدنية في حمص بل في العالم الإفتراضي، وحاولت اطراف ظلامية اختزال ثورة الشباب والشعب بحراك”أهل السنة” في وجه النصيرية والباطنية الرافضة والمجوس، واستطاع الاعلام الخليجي اعطاء زخم كبير لهذه الطروحات على الفضائيات. لقد حاولنا بكل الوسائل تحجيم هذا الصوت النشاز والمدعوم من انظمة بدأت تتلمس رأسها منذ ثورة تونس، وبالأخص دول الخليج، وعلى وجه التحديد النظام السعودي وحلفاءه في المنطقة. ولا شك، بأن الدعم الإعلامي والمالي الهائل الذي يتمتع به اصحاب هذا الخطاب، قد اعطى السلطة الديكتاتورية كل ما تحتاج اليه في حديثها عن مؤامرة خارجية ضد “النظام الوطني والمقاومة والممانعة”… هكذا التقت مصلحة السلطة الامنية وجنود التعبئة المذهبية من اجل خنق وتجفيف منابع العطاء الديموقراطي. الاول بالقتل والاعتقال والملاحقة لأهم كوادر الانتفاضة الشعبية، والثاني في عنف الكلمات وتأجيج الاحقاد وتوفير البيئة الصالحة لعنف يواجه فيه عنف السلطة. ويلاحظ التقاطع الموضوعي بين شبيحة السلطة وتشبيحات المتطرفين في تغييب كليهما لأهمية الحوار المجتمعي والتواصل المدني بحيث تستمر حالة تدنيس الوعي التي تنتجها الديكتاتورية. ناهيكم عن محاولات ضرب ترابط النضال الاجتماعي نحو الحرية مع النضال الوطني من اجل التحرير بوعي او بدون وعي.

لا يمكن بحال من الأحوال، مقارنة قوة السلطة الديكتاتورية الضخمة بقوة فوج التطرف المحدودة. خاصة ان المركب الاساسي للنضال الثوري ما زال يتقدم بشكل كبير على الاقلية المتطرفة في الحراك الاجتماعي. إلا ان خطر هذا الفوج يزداد يوماً بعد يوم، ويساعد على ذلك عوامل عدة.

اولها: لجوء السلطة الامنية الى خنق حالة الوعي المتقدمة للانتفاضة عبر اعتقال خيرة كوادرها، وسحق الاعتصامات منعاً للحوار الجماعي، وقتل المواطنين معززة الرغبة في الاغتيال والرد عند المقموعين.

ثانيها: نشوء حزب المستعجلين من الطبقة السياسية التقليدية خاصة في المنفى. حزب المستعجلين هذا يشعر بأن الانضاج الطبيعي لقيادات التغيير في الداخل يعني تهميش الدور الذي يسعى له من الخارج، لذا فهو يضم اتجاهاً قوياً يدعو للعنف والتصلب وتكريس الصراع الطائفي بحيث يصبح دور الخارج حاسماً في علاقات القوى الداخلية. لعل كارثة الكوارث في هذه اللحظات الصعبة التي تعيشها الحالة الثورية المدنية في البلاد ناشئة من هذه التقاطعات بين شبيحة القامع ومتطرفي المقموع. المقهور يجد في الرد الطائفي وسيلة تنفيس وتعبئة ضد توحش الامن، والقامع يجد في خطاب البعض عن ثورة اهل السنّة ما يحتاج اليه لتحييد الاقليات وقطاعات واسعة من السنّة الرافضين لأي هوية مذهبية للنضال السياسي.

لا يمكن ثورة مذهبية ان تنتصر في سوريا على الديكتاتورية. بل لعل الطائفية والمذهبية اول مسمار في نعش الثورة. من هنا نؤكد للمرة الالف، ان ثورة اهل المواطنة هي السبيل الوحيد للقضاء على الديكتاتورية والتخلص من حكم العائلة والاجهزة الامنية والمحسوبيات والعلاقات العصبية والزبونية. لقد اصبح من الضروري تحقيق الفرز الواضح بين القطب الديموقراطي بكل مكوناته، والقطب الاستبدادي بكل تعبيراته. لم يعد هناك مكان للصمت او المهادنة، لأن المهادنة تعني المشاركة في اغتيال اجمل ما قدمت لنا انتفاضة الكرامة، المواطنة في وجه الرعية، المدنية في وجه العصبية، السيادة في وجه الهيمنة الخارجية والديموقراطية كمنهج جامع لكل السوريين.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى