صفحات سوريةغازي دحمان

سوريا: حلول من خارج صندوق الأوهام

 

غازي دحمان

ليس بعيداً ذلك اليوم الذي سيكتشف فيه السوريون، وبخاصة أولئك الذين حلموا بسوريا ديموقراطية ومدنية وموحّدة، أنهم وقعوا ضحية تضليل أحلامهم، التي لا يمكن لسواها أن تنتج ذلك النمط الشعاراتي الذي يفيض شحنات رومانسية لا معادل سياسياً وثقافياً لها على أرض الواقع.

سيكتشفون أن التصحر السياسي، وحال الاحتباس السياسي المديدة، الذي عاشت البلاد في ظله عقوداً طويلة، لم يقتل، فقط، العمل السياسي بفكره وممارساته، وإنما أضاف إلى جملة ضحاياه، الوعي الجمعي، بأن جعله مفصولاً عن الواقع، فصار وعياً مسطحاً لدرجة لم يستطع معها رؤية الواقع وإدراك حيثياته وتفاصيله، وإلا كيف يكون الشعب واحداً فيما هو “طبقات”، بالمعنى العنصري وليس الماركسي، ودرجات تبعاً للتصنيف الطائفي والمذهبي؟

وحدها أفكار النخب وأحلامهم كانت تجري سائبة خائبة في مدى سياسي لا حدود ولا أفق ولا تخوم له، بالموازاة مع هندسة إحترافية للوقائع يجريها النظام الحاكم بما فيها من عمليات الفرز والاصطفاف، وشبكات العلاقات الإقليمية والدولية، وتحالفات التجارة والاقتصاد، ويعمل على ترسيخها وتصليبها بما يضمن إنتاج سوريا مشوّهة في الواقع، ولكنها أكثر طواعية للتوظيف السياسي الذي يخدم النظام وزمرته وواجهاته السياسية والاقتصادية والدينية.

ما من شك بأن سوريا التي تنزف اليوم موتاً ونزوحاً هي نتاج حال الاشتباك يبن رؤى وتخيلات النخب “الحالمة”، والحالة الصلبة التي رسخها النظام على مدار عقود، وهي الوضعية ذاتها التي أنتجت هذا “الاستاتيكو”، المعقد والمكلف، الأمر الذي بات يتطلب الانتقال إلى مرحلة البحث الجدي عن مقاربات من شأنها إيجاد حلول منطقية تحفظ كرامة “الشعب” السوري، وتوقف آلة الدمار والقتل المنفلتة، علّ ذلك ينقذ ما تبقى من عمران وأرواح ويخفف من تعقيدات إمكانية التسويات المقبلة، هذا إن بقيت هناك إمكانية للتسوية.

وعلى هذا فإن أي مقاربة جدية للأزمة السورية لا بد أن تنطلق من جملة الحقائق التي باتت مترسخة في الواقع السوري، بعد ما يقارب عامين من انطلاقة الثورة السورية:

ـ ثبت، بما لا يدع مجالاً للشك والمداورة أيضاً، أن عائلة الأسد قد استفادت من تجربة عام 1936، حينما خاض الجد “سليمان” معركة استقلال دولة العلويين وهزمه حينها “التيار الوحدوي” في الطائفة، فقد نجح الأبناء والأحفاد الأسديون في القضاء على كل تيار في الطائفة يخالفهم الرأي والتوجه، وأقنعوا العلويين بالانفصال السيكولوجي عن “شركائهم” السوريين تمهيداً للانفصال الجغرافي.

ـ ثبت أيضاً أن الطوائف الأخرى، غير السنية، ليست مؤيدة للحراك الثوري، بل لا تعترف له بهذه الصفة، ولا ترى فيه سوى نوعاً من التقية، يخفي وراءه رغبة في الوصول الى السلطة لفرض معتقدات القيم الدينية للطائفة السنية على بقية المكونات الأخرى.

ـ وثبت أيضاً أن بين ظهراني الطائفة السنية تيارات متطرفة، وهي على قلة تأثيرها الحالي، فإنها مؤهلة، ونتيجة استمرار الصراع واحتدامه، لأن تصبح تيارات جاذبة وحاكمة، الأمر الذي سيحول قضية التعايش الوطني إلى قضية معقدة.

ـ كل ما سبق أدى إلى انهيار الثقة بين مختلف المكونات الوطنية السورية، وأحدث خلخلة عميقة في الأنسجة الوطنية، وزاد من حالة الانغلاق الطائفي، بحيث باتت كل طائفة، ربما باستثناء الطائفة المسيحية، تملك ميليشيا خاصة مسلحة وجاهزة، فضلاً عن وجود المرجعيات السياسية والاجتماعية، وصارت الحالة الوطنية السورية أشبه بجزر منفصلة تربطها مياه المحيط المتقلبة على الدوام بين مد وجزر.

أمام هذا الواقع، بكل تعقيداته ومصاعبه، لم يعد مفيداً أن تصرف النخبة السياسية والفكرية السورية طاقاتها في البكاء على مجازر وانتهاكات النظام، ليس لأن النظام سيستمر في سلوكه وحسب، بل لأن سلوك النخب لن يكون من الممكن إدراجه بعد ذلك في إطار الفعل السلبي، بل في خانة الشراكة في القتل، ما لم يتم الإنطلاق إلى البحث عن مقاربات عملية لحل الأزمة.

في هذا الإطار يتوجب التنبيه إلى عدم ضرورة تجريب الكثير من نماذج الحلول السياسية التي تم اختبارها في حالات سابقة، كالشراكة في الحكم، والمحاصصة، وتداول المواقع الرئاسية، ودمج الجيش، فلن تكون تلك الأنماط سوى “فيزا” لرحلة مديدة في أفق العطالة والجمود، تورطت فيها بلدان عديدة (أوغندا ورواندا وسيراليون ولبنان والعراق، وحتى إيرلندا والبوسنة). ذلك أن الصيغ التوافقية التلفيقية لن تثمر واقعاً متطوراً، بحكم أن الجماعات ستبقى محكومة بهواجسها ومخاوفها من وقوعها تحت سيطرة الجماعة الأقوى.

الحل في سوريا يجب أن يبدأ بالبحث عن صيغة جديدة غير صيغة الدولة السورية البسيطة، التي فشلت في إنجاز عملية التعايش الوطني، وانتهت بعد عقود من القهر والتخلف إلى نموذج مروع من القتل والدمار. وثبت أن التمسك بهذه الصيغة كان وصفة سهلة لتدمير الإمكانيات والطاقات.

ثم أنه وما دامت شعوب سوريا، والمشرق عموماً، كما يقول حازم صاغية ” لم تنجح في الارتقاء إلى صوغ تطور عصري ديموقراطي لمجتمع متعدد تستطيع جماعاته أن تتعايش من دون خوف أو تبادل عنصري”، تصبح عملية الإصرار على وحدتها القسرية نوعاً خاصاً من الانتحار أو القتل القصدي، إضافة إلى حقيقة أن المجال السياسي الدولتي فضفاض ومرن ويتيح أشكالاً للدول، أكثر مرونة وقابلية للعيش، كالفيدرالية، والكونفدرالية، واتحاد السوق، في حال تطلبت مصالح هذه الشعوب البقاء في إطار كيانات تحميها.

صار لزاماً على النخبة السورية، للخروج من هذه الأزمة المدمرة، البحث عن صيغ وحلول جريئة، فلم تعد القضية مرتبطة بإسقاط نظام ورأسه، ثمة منظومة فكرية وقيمية ترسخت في ظل الأزمة وبات من المنطقي الانطلاق من هذه الحقيقة لمقاربة الحل، وإلا فالكل سيكون شريكاً لشبيحة الأسد في الجريمة وإن بطرق مختلفة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى