صفحات سورية

سوريا: ساعة من المستقبل

 


عفراء جلبي

مرت علي لحظات عصيبة الفترة الماضية. شهداء ومعتقلين ونازحين، وفوقها أطفال شنع بهم فاختزلت أجسادهم الغضة معاناة شعب أمام آلة قمع رجعية فات أوانها، لم تكن لها بالأصل مدة صلاحية.

قبل يومين خلال أمسية ثقيلة بالحزن وبانتظار جمعة صالح العلي، توجهت إلى منتزه الحي المجاور قبيل الغروب. وجدت المنظر رائعا بعد يوم حار. كانت الرطوبة قد تحولت لضباب أبيض هبط إلى أطراف المنتزه محيطا بالعشب الأخضر، وبعض نسمات الهواء تطير بريش قد جف من بتلات أزهار الهندباء مما جعل المنظر يبدو وكأنه من عالم آخر. في نهاية المنتزه خلف غبش الضباب ووهج الشمس الغاربة كانت تأتي بعض أصوات مراهقين يلعبون البيسبول. تمشيت قليلا ثم جلست. بعد قليل رأيت شابا يخرج من الضباب ويتجه نحوي. جاء وجلس على مقعدي بابتسامة واثقة. رأيت فيه وجوه أقارب كثر. شعرت أني أعرفه من زمن طويل. نظر نحوي وقال: أنا سعيد بأني قابلتك لأني أحب أن تعرفي ما حدث لسوريا. استغربت من عبارته. ابتسم وقال: أنا أحد أحفادك، قادم إليك من المستقبل. أذهلتني كلماته. قال: كثير من الناس في زمنك لن يتخيلوا ما حققته سوريا خلال سنوات وعقود. المنطقة العربية كلها صار اسمها الجاكوار المتوسطي من سرعة النهوض. ما يزال المحللون يحاولون فهم الظاهرة العجيبة، وكيف استطاعت بلدان عاشت تحت القمع والاستعمار اللحاق ببقية العالم بل وكيف سبقتها في مجالات كثيرة. نظرت إليه بتعجب. قال: لا تستغربي يا جدتي. فمثلا تعتبر سوريا الآن الدولة الرائدة في حل النزاعات الإقلمية والدينية في العالم، هذا فضلا عن اختراعات علمية وتكنولوجية لن أستطيع شرحها لك. أعرف أنك ستسرين يا جدتي عندما تعرفين أن الدولة الرائدة في فكر اللاعنف والتعايش المدني هي سوريا. فقد استطاع هذا البلد الصغير بفضل قدرته الأسطورية على تحديات عظام أن يصبح في مصاف العظام. ثم أضاف وهو يضحك: صغير بس فعله كبير. هكذا صارت سمعتنا. حتى في الهند صارت إشكالات فذهبت عدة فرق سورية لمساعدتهم وتذكيرهم باللاعنف ودعمتهم أيضا في نزع السلاح النووي. نحن جيلنا وجد هذا عاديا جدا لأننا نفخر بثقافة اللاعنف التي تأصلت في ثقافتنا خلال الثورة السورية، ولكن الجيل الأكبر يتذكر من آباءه كيف كانت سوريا ولذا بعضهم استغرب كيف صارت سوريا مصدرة اللاعنف لشعب غاندي. بالنسبة لنا كان الأمر أكثر من طبيعي فسوريا أثتبت أنها من أكثر شعوب الأرض سلاما وتعايشا وإزدهارا.

كانت أشعة الشمس تتحول إلى ألوان ذهبية حمراء. قال لي. أتعرفين يا جدتي؟ هناك أشياء في سوريا لو رآها بعض من حولك لشعروا بأنهم يحلمون. وهذا طبيبعي. فكل ما يكون مثل الحلم للأجيال الأقدم يصير واقعا لأجيال لاحقة. لن تعرفي كثيرا من المدن بسبب حركة التشجير الكبيرة. كم أتمنى أن أريك منتزه الشهداء خارج تدمر. لن تصدقي أنها في وسط البادية السورية. وأعرف أنك ستكونين سعيدة لو رأيت الوعي البيئي وكيف يكاد يكون دينا متطرفا في المجتمع السوري. تعرفين السوريين. بس يحطوا راسهم بشي شغلة لا يقبلوا إلا أن يتقنوها. على فكرة، قد تنزعجين أنت وأصدقائك من بعض النكات التي يحكيها جيلنا على تاريخ سوريا. أحيانا نقول بفضل شدة القمع والرقابة الإلكترونية عصرت سوريا عباقرة كمبيوتر. لأن هذا فعلا أنتج جيلا من خبراء وعلماء الكمبيوتر سبقوا كثيرا من الدول وساعدوا في خلق إقتصاد تكنولوجي مزدهر.

نظر حفيدي نحوي بابتسامة كبيرة، وقال: أكيد عرفت المجال الآخر الذي أبدعت فيه سوريا؟ قلت له: عفوا لم أعرف. ضحك كثيرا، وقال: فكرتك رح تحزري بسهولة. الطب يا جدتي! الطب والصحة! عندها ضحكت فعلا. فتابع حديثه: لأنه في جيلكم كان الطب هو حلم الطالب المتفوق. هكذا نمزح عن الأجيال القديمة. أطباء وهاربين من البلد، ويعدين رجعوا وطاب الناس من كل شيء بما فيها كولسترول القمع وتصلب الدكتاتورية الشراييني. ولكن عن جد يا جدتي مع استقرار الأمور بدأت مراكز طبية قوية تظهر في أنحاء البلاد، وصارت سوريا في مقدمة الدول المتقدمة في البحث العلمي والطبي. في جلينا عاد التوازن وازدهرت فروع أخرى وخاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأنا اجتهدت كثيرا لأدخل علاقات دولية، لأن هذا ما يحلم به شباب جيلي بسبب وضع سوريا الخاص والمميز في العالم. أحلم بأن أكون من الفرق واللجان التي تذهب لبلدان أخرى لنشر الوعي اللاعنفي والديمقراطي. هذا هو هدفي الشخصي. وأعرف أنك ستسرين لو رأيت مناهجنا التعلمية وكيف ندرس تاريخ العالم ورحلة الإنسانية والإرث الروحي لكل الحضارات. وعلى فكرة، قد لا يعجب البعض أن سوريا لم يعد اسمها قلب العروبة النابض رغم ازدهار اللغة العربية وإعادة إحياء المعجم اللغوي واقبال الناس من أنحاء العالم لتعلم العربية. سوريا صار اسمها “قلب الإنسانية النابض” بسبب وعيها ومواقفها الإنسانية العالمية، وتجاوزها كل أنواع التطرف والتعصب العرقي والمذهبي. كثير من الأساتذة يحاولون أن يشرحوا لجلينا بأن ما نراه اليوم لم يكن هكذا دائما. ولكن أنت تعرفين أن الإنسان يولد في بيئة فيظن أنها كانت هكذا دائما. نحن فعلا لا نستطيع أن نفهم مراحل القمع العسكري والأمني التي مرت بها المنطقة وخاصة في سوريا بينما نحن الآن دولة السلام والرحمة. يصعب على جيلنا أن نتخيل أن ثقافتنا اللطيفة والمعروفة بالكرم والرقة انتجت أشياء عندما نقرأها تصيبنا بالغثيان. ولكنها أيضا مرحلة تجعل قسما كبيرا من شبابنا متواضعين عندما يذهبون لبلدان أخرى لتقوية الثقافة المدنية والسلمية. فهم يشرحون للشعوب الأخرى أن الظلم ظاهرة كونية ليست حكرا على أحد وأن الإنسانية والرقة هي الوضع الطبيعي وليست أجنبية أو غريبة على أي ثقافة إنسانية. وأنه كلنا في الهوا سوا! أمراضنا متشابهة وعبقريتنا وروعتنا متشابهة.

علت وجه حفيدي علامات الجد ثم قال هو ينظر إلى السماء: ولكن تأكدي يا جدتي بأننا لم ننس أبدا التضحيات التي قدمها الشعب السوري. كلنا نعرف أسماء الشهداء واحدا واحدا. هل تعرفين لماذا؟ لأن شوراعنا تحمل أسماؤهم ومدارسنا وجسورنا وساحاتنا ومشافينا وحدائقنا. ودائما توجد أفلام جديدة وروايات عن تلك الأيام العجيبة. في الحقيقة ما تزال ثقافتنا مهووسة بتلك الفترة ونعرف الكثير من قصص هؤلاء الأبطال. بل أحيانا يقوم النقاد والمثقفون بنقد الرومانسية الزائدة التي يسقطها الناس على ما يراه أغلبية الشعب أنه كان لحظات ولادة الشعب السوري الحديث. وندرس في المدراس فكرة “ما قبل السلمية،” و “ما بعد السلمية،” مثلما كنتم أنتم تدرسون فكرة “ما قبل التاريخ،” و “ما بعد التاريخ.” لأن هذا هو المفصل الذي غير كل شيء. صرنا في مقدمة مجتمعات العالم حين تحررنا من عقلية العنف والتحاكم إلى القوة، وحلينا كل مشاكل المنطقة بالسلمية والوعي. وصرنا مجتمعات تكافلية تضع ميزانياتها في التعليم والفنون والثقافة والأبحاث العلمية بل وفي مساعدة الأمم الأخرى على النهوض مثلنا.

رأى حفيدي في عيني تذكري لزمني، فقال لي: ربما عليك أن تحتفظي بهذه الأخبار لنفسك، لأني أعرف أن الكثير سيقول لك إنها أحلام وردية، وقد يقولون لك إن العرب لن يصيروا ولن يتقدموا، من أفكار نابعة من عنصرية ضد الذات. نعم هذه الأشياء التاريخية نحللها الآن في الجامعات. ولكن الأمور نسبية يا جدتي ولا تظني أنه لا توجد عندنا مشكلات وتحديات نحن أيضا ولو أن جيلكم قد لا يفهم عصرنا. قلت له: اشرح لي! سأحاول أن أكون معك على نفس الموجة. رفع يديه في الهواء وقال: أولا حتى أستطيع أن اشرح لك الأزمة السياسية الراهنة علي أن أخبرك أنه صار حلف كبير في المنطقة بين الدول العربية وتركيا وإيران بعد تحول الجميع إلى ديمقراطيات مدنية وصار اقتصاد كل منها يزدهر، طبعا لرعاية مصالحهم الإقليمية المشتركة. وصار حلفا قويا لدرجة أن الوحدة الأروبية صار لها عدة سنوات تتوسل إلى الحلف بضمها إليهم. نظرت بدهشة وقلت بتردد: إني أتابع كلامك –ولو أني كنت أحاول أن أركز كثيرا لاستيعاب كل هذه التغيرات–. فقال لي: هناك أناس ضد الفكرة تماما. فكما تعرفين دائما يوجد أناس يهتمون بالاقتصاد ويعتبرون أنفسهم واقعيين، وآخرون يهتمون بأمور أخلاقية ويعتبرون أنفسهم إنسانيين. وكل طرف يتهم الآخر بأنه يغيب ما هو مهم. قلت له، وما المشكلة في انضمام الوحدة الأوربية، أليست مكسبا لكم وزيادة في قوتكم؟ سكت لبرهة وابتسم طويلا. وقال مشان هيك حسيت ما رح تفهمي علي. لا يا جدتي. بالعكس المكسب لهم، لأننا نحن الآن قوة مركزية في العالم. والذين يعارضون انضمامهم يقولون إننا قوى إقتصادية حديثة في خط بيان تصاعدي وأن الديمغرافيا عندنا شبابية. بينما إذا قبلنا انضمام مجتمعات كهلة، مثل الدول الأوربية، حيث الأغلبية السكانية فيها فوق عمر معين، سوف نتحمل ضغوطا لسنا بحاجة لها. جحظت عيناي. وحاولت ألا أعلق. وسألت بهدوء. وأنت ما رأيك؟ فنظر إلي مستغربا، وقال ماذا تتوقعين؟ نحن جيل الشباب نقول لهم هذا المنطق عيب، وعنصري وضد الشيخوخة ونحاول إقناع الناخبين والسياسيين بقبولهم مع الحلف. ولكن كما تعرفين في كل عصر، جيل الشباب متهم بالمثالية بينما الذين يؤيدون الأفكار الإقصائية يعتبرونها مبنية على حقائق اقتصادية وواقعية. ثم أضاف، لا أريد أن أوجع لك رأسك، لأنه يحصل نفس الشيء مع الذين يتقدمون بالهجرة للعالم العربي. نأخذ نسبة معينة منهم، ولكن طبعا الأولوية للعقول والمهارات، ونسبة قليلة للجوء سياسي. صحيح أن هناك مساواة في القانون ويعامل الجميع المهاجرين بشكل جيد، ولكن جيلنا من الشباب يريد أن تكون الهجرة مفتوحة أكثر ومتساهلة أكثر لأسباب إنسانية. كنت أنظر إليه بذهول، وكأني فتاة صغيرة وهو الحكيم. وتأكدت من هذا عندما قال بكل ثقة وكأنه عجوز صغير: يا جدتي هكذا الزمان. ما يبدو مثاليا يصير عاديا، لتظهر أحلام أخرى في الأفق. الحياة في تغير دائم. فكما تعرفين الناس ضحكوا على عباس بن فرناس حين كان يحلم بالطيران، بينما أحفاد الذين سخروا منه يركبون الطائرات الآن، وبعضهم يذهب إلى القمر هذه الأيام للتنزه الفضائي. جعلني فعلا أضحك. نظرت إليه، فشعرت أنه فعلا قادم من زمن آخر. الثقة في صوته، والمرح في وجهه، والرقة في أهدابة الطويلة كلها جعلتني أشعر أنه فعلا يعيش زمنا يشعر فيه بانسانيته وعالميته.

كانت ألوان الأفق تحولت إلى البنفسجي والنيلي. قام وقبل رأسي وقال: جدتي، لا تقولي هذه الأشياء لأحد. ما رح يصدقوك. بس أنا حبيت خفف عليك حزنك وقلقك. ثم استدار وسار نحو الضباب وعاد إلى المستقبل الذي أتى منه، وتركني في توترات الحاضر العربي. كنت أنظر خلفه وأنا ما زلت مندهشة. فكرت بنصيحته الأخيرة. ثم قررت، لا، لن أرد عليه. بما أني دائما مشاغبة، قررت أنني سأكون أيضا جدة مشاغبة، وأنقل لكم بعض مما قاله لي.

تذكرت أني لم أسأله عما حدث للنظام السوري، أو حتى السياسية الخارجية الأمريكية. ولكن يبدو أن دفة الحديث أجابت لوحدها. فما يغيب عن الحديث هو جواب بطريقة أخرى. ويبدو أن ما يفقد قوته وأهميته يسقط من الذاكرة والأحاديث العفوية.

إمكانات عظيمة وأقدار رائعة تنتظرنا، ونستطيع أن نكون مفاتيح لها. فعلا إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستيجب القدر، ولا بد أن يستجيب الأفراد لنداء المستقبل. وكم سيكون جميلا أن نشارك ونساهم في صنع هذا القدر.

ايلاف

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى