صفحات المستقبلفراس سعد

سوريا.. شرارة قصمت ظهر النظام


فراس سعد

غبت عن دمشق الوردة أسبوعين أو أكثر، سافرت إلى البلد لأقضي بضعة أيام مع الأهل والأقرباء، عُدتُ إلى دمشق التي أصبحت بلدي ووطني بعد السجن، عاهدت نفسي ألا أتركها أبداً بعد ذلك، وعدت لأسأل عنها، كنت قريباً من حارتها فنزلت إلى بيتها، سمعت أنها تحضّر لاعتصام أهالي المعتقلين، كأنّ حجراً وقع على رأسي، أسرعت إلى بيت وردة، أخبرتها بما سمعت، ابتَسَمت، لمتها، قالت “طيب خود…هي دعوة خطية لأهل صديقك فهد، مو هيك بدّك؟”، نظرت في عينيها مبتسماً، كانت كل خلية في وجودي تقول “نعم هيك بدي” بادلتني الإبتسامة، لم أعرف ماذا أقول، هل ألومها أم أعتذر منها أم أشكرها، قالت “الحق عليك أنت بتغطّ ما بيعرف الواحد وينك، لابتحكي ولا بتسأل” أخذت من يد وردة ورقة صغيرة بالكاد اتسعت لثلاثة أسطر، لكنها ورقة كانت كافية لتشعل دمشق وسوريا.

مساءً كنت في الطريق إلى بيت أهل فهد، كان الشتاء قد حوّل الطرقات الجانبية في المخيم إلى كتلة هائلة من الوحول، لم أستطع أن أتجنب الغوص في الوحل حتى أعلى حذائي، كاد الوحل يجمّد خطواتي، بجهد تخلّصت، اتصلت بوالد فهد ليلاقيني في منتصف الطريق ثم لنتابع إلى منزله، كانت المرة الثانية التي أزورهم فيها بعد خروجي من السجن، أخبروني أن وضع فهد في سجن صيدنايا قد تحسّن إلى حدّ ما، أصبح رئيساً للقاووش، “مبروك؟!” قلت ممازحاً، ضحك أبو فهد، تابعت قائلاً “المهم يا عم يوم الأربعاء في اعتصام لأهالي المعتقلين وهذه دعوة لك وللعائلة”. لم ينتظر ابو فهد تأكيدي على حضورهم، سارع للقول وعيناه السوداوان تلمعان بفرح وإصرار “رح نجي”، احتسيت الشاي السريع، سلّمت على ام فهد وذكّرت ابو فهد بضرورة الإتصال بأبو اسماعيل، والد صديقنا المعتقل بدوره في صيدنايا، قال إنه اتصل به ووعده الأخير بالحضور من حماه مع عائلته، في اليوم التالي اتصلت بأبو اسماعيل، أخبرته بضرورة حضوره مع العائلة، قال إنه سيحاول، وجدته متردداً أو خائفاً، عدتّ لأؤكد له أن هذا الاعتصام مهم جداً للضغط على النظام لإخراج ابنه ورفاقه، مع ذلك لن ألوم أبو اسماعيل على عدم حضوره، فالمخابرات تعدّ الأنفاس فكيف بأهالي المعتقلين وفوق ذلك كيف إذا سافروا إلى دمشق للمشاركة باعتصام أمام وزارة الداخلية وسط العاصمة؟.

في الساعة الثانية عشرة ظهراً بدأ أهالي العديد من المعتقلين والأصدقاء بالوصول إلى ساحة المرجة، وقفت بالقرب من “سيرياتل” شركة رامي مخلوف للخليوي ومشتقاته؟؟ لأدلّ الواصلين من الأهالي إلى مكان الإعتصام، لكن أقلهم جاء من تلك الجهة، ووفد معظمهم من جهة الساحة، على الرغم من إمتلائها بالمخبرين ورجال الأمن.

بعد ربع ساعة أصبح العدد أكثر من مئتين، رجعت إلى حيث اجتمع المعتصمون، كان منظراً مهيباً، لم أره منذ اعتصام السفارة المصرية، صمت يخيّم على ساحة المرجة، خُيّل إليّ أن الساحة العامرة بكل أنواع الحركة قد توقفت عن التنفس، صمت يخيّم على الحشد، على كل شيء، ليس سوى نظرات، مئات النظرات، آلاف النظرات لمئات العيون، خلتها عيون البشرية جمعاء تحدّق باتجاه واحد: وزارة الداخلية ومجموعة من رجال الأمن الذين سرعان ما تحوّلوا إلى شبيحة وقتلة وحشيين.

رفع المعتصمون صوراً لمعتقلين في السجون السورية، عرفت منها صورة المرحوم نزار رستناوي- صديقنا وأستاذنا في سجن صيدنايا- رفعتها زوجته وهي لم تعرف حتى ذلك الوقت بمقتله في السجن، وربما لم تعرف حتى ساعة كتابة هذه السطور، لم نُرد إخبارها لتبقى على أمل عودته، صورة محمود باريش وصورة كمال لبواني حملتها أخته كما أذكر، كان منظراً مهيباً على قلّة أشخاصه، كلما تذكرته أشعر بخشوع جوارحي، وأشعر بغبطة أني كنت أحد الذين تواجدوا في المرجة ذلك اليوم، كان الجميع يترقب الجميع، جماعتنا ترقب البلطجية قبل أن يتحولوا لاحقاً إلى شبيحة – الذين تجمّعوا مباشرة أمامنا، لم أستطع تمييزهم أول وهلة، لكن ثيابهم الأنيقة السوداء وقاماتهم الطويلة المتشابهة – كأنهم اختيروا بالمسطرة- فضحت هويتهم، هم بدورهم كانوا يترقبون أول حركة منّا، أما نحن فكنا ننتظر صوتاً يرتفع من أحدنا.

رفعت “موبايلي” بهدوء والتقطت صورتين وقلبي يرتجف، سمعت دقاته في ذلك الهدوء الغريب، ما إن كبست زر الصورة الثانية حتى شعرت بضربة مفاجئة على قدمي، التفتّ، سمعت من يقول وهو يمشي “ممنوع التصوير”، فاضَ نبع الخوف حتى وصل رأسي، لكني شعرت بالإطمئنان كونه لم يقف ويأخذ “الموبايل”، لحظة ثانية أشعر بأصابع فوق كتفي، التفتُّ، رجل مخابرات آخر كأنه من الدرجة الثانية يطلب مني “الموبايل”، أخبرته أن هؤلاء أصدقائي، قال “بعرف، وبعرف مين أنت”؟؟ فاجأني كلامه، قلت بجرأة “مجرد صورتين للذكرى”، فأصرّ على حذف الصورتين، لكني ركبت رأسي وقلت بإصرار “هدول أصدقائي… هي صورتين للذكرى”، شعرت بأن رجل الأمن يريد أن ينسحب لسبب ما، في الحقيقة بدأت أشكّ بنفسي، لماذا لم يأخذ “الموبايل”؟ لماذا لم يعتقلني؟ ماهذا الرقي والتسامح المفاجئين، كأني لست في سورية، كأني لست سورياً؟؟.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى