صفحات سورية

سوريا صورة الرئيس والخطاب الرمزي للاستبداد


معتز الخطيب ()

في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، اختفى أخي الأكبر الذي كان قد ذهب للتو لأداء خدمة التجنيد الإلزامية؛ بسبب تعليق هازل على صورة “السيد الرئيس” التي كانت تملأ كل الأمكنة في مقر خدمته بمناسبةٍ (وطنية) لم أعد أذكرها. لم يكن فعلُه – إن ثبَتَ أمرًا هيّنًا، ولذلك لم يجرؤ أحدٌ على التوسط له أو حتى السؤال عن مكانه!. شكّل ذلك الحدثُ مُفتَتَحَ وعيي السياسي العام الذي أدركتُ من خلاله تلك القداسة القهرية لصورة السيد الرئيس التي يُحظرُ الاقتراب منها أو التساؤل عنها. كَبُرَ جيلنا وهو يرى صور الرئيس تملأ كل الأمكنة، بمناسبة وبغير مناسبة، حتى شكّلت لازمةً، كثيرًا ما كانت تُشَبّه “بالحجاب” الذي يستعمله السحرة والمشعوذون لطلب الحماية والعناية ودرء أعين الحساد، ولكن تعليق صورة الرئيس كان يُحيل إلى جملة معانٍ سياسية، أقلها التعبير عن الولاء والطاعة للنظام ممَثَّلاً بشخص الرئيس، فضلاً عن أنها كانت تعبيرًا مستترًا عن فعل استباقيّ يقوم به المواطنون لقطع الطريق على التقارير المُفَبْرَكة والكيدية للجواسيس والمخبرين، فكانت الصورة الحاضرة دومًا في المحلات والمكاتب والمدارس وحتى البيوت تعبيرًا عن استدعاء الحماية وإيثارًا للسلامة.

وحين زرت القاهرة في النصف الثاني من التسعينيات، تطفّل عليّ أحد ركاب الميكروباص، فلما عرف أني سوريّ عيّرني بالقهر الذي نعيشه في سوريا، وشتم بأعلى صوته الرئيس حسني مبارك، على حين لم أنبس ببنت شفة!. صدمني الموقف الذي كان أول تحدٍّ خارجي يضغط على معضلة قداسة “السيد الرئيس” التي أرّقتنا نحن السوريين لعقود شكلت لنا صورة الرئيس فيها ثابتًا مركزيًّا في كل شارع ومكتب وغرفة ومناسبة!.

تعودُ ظاهرة انتشار صور الرئيس إلى عام 1970 مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة إثر انقلاب عسكري سُمي “حركة تصحيحية”، فلم يكن المطلوب وقتها تدعيم سلطة القائد الجديد وتثبيت شرعيته قهرًا فحسب، بل كانت أيضًا محاولة لشخصنة جديدة للسلطة بعد شهر واحد من وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، ومع حرب 1973 التي اعتبرت (رسميًّا) نصرًا عظيمًا ارتفعت وتيرة حضور الصور في المجال العام مع إضفاء صفات عديدة على شخص الرئيس، كان أبرزها “المناضل”. ومع دخول حافظ الأسد في غيبوبة ومحاولة أخيه رفعت الأسد الاستيلاء على السلطة في 1984 تم تكثيف الصور وإضفاء هالة من القداسة عليها، وأخذت بعدًا رمزيًّا مصحوبًا بوصف الخلود في لحظة كان شخصه أبعد ما يكون فيها عن الخلود فضلاً عن الحضور المادي، وتحيل الباحثة الأميركية “ليزا وادين” ظاهرة انتشار تماثيل الرئيس في الشوارع العامة إلى تلك الفترة نفسها؛ فقد ظهر أول تمثال في دمشق سنة 1984م.

خروجُ الأسد من غيبوبته الذي جاء بعد صراع مع الإخوان المسلمين ثم مع أخيه، استدعى توفير إطار شعبي لعودته، تم تسويقه تحت مسمى “البيعة” بإيحاءاتها الدينية وبدلالتها على شخصنة السلطة وشكل علاقة الحاكم بالمحكومين، فضلاً عن تحديدها لطبيعة السلطة وشكلها في كونها مدى الحياة. ولكن صفة البيعة لم تكن لتفي بتطلعات رأس السلطة والعائلة، فظهرت بوادر التوريث في أواخر الثمانينيات حينما ظهر تعبير جديد على الخطاب السياسي الرسمي يَكنّي الرئيس باسم ابنه (أبو باسل) في محاولة للتهيئة لعملية توريث السلطة، في حين جرى التركيز على صفة “الأبدية” ممثَّلة بالوراثة. ومع وفاة الابن الأكبر سنة 1994 تم استدعاء الابن الآخر على عجل بعد منتصف التسعينيات وإدخال صوره إلى المجال العام لتثبيت حضوره السياسي.

لم تنفك ظاهرة حضور الصور وإسباغ الكثير من الأوصاف المتفردة عليها عن صفة القداسة التي تجعل من شخص الرئيس مقدسًا يكاد يقترب من مرحلة النزاهة والتعالي والحضور في كل مكان، وحَظْر النيل منه أو التشكيك بإنجازاته أو حضوره، أو محاولة إزالة صورته التي كان يعاقَب عليها بالقانون عقوبةً قد تصل إلى دفع الحياة ثمنًا لذلك، وهي تهمة تكاد توازي تهمة “الزندقة” تاريخيًّا، ما أضفى طابعًا شبه إلهي على شخص الرئيس!. وفي ظل نظامٍ يُقَدّس الحاكم الفرد لا يُسمح بنقده فهو فوق النقد والمساءلة، وكلُّ تصرفاته “حكيمة” وصائبة، ومن هنا اعتاد نظام الأسد أن يُحيل كل المشاكل إلى قوى ومؤامرات خارجية، ولكن القائد الفرد يستطيع – على الدوام – التغلب على كل تلك القوى والمؤامرات.

ظاهرة عبادة الفرد في الخطاب السياسي السوري تجلت أكثر ما تجلت في اختزال سوريا التاريخ والجغرافيا في شخص الأسد وعائلته من خلال الشعار المتداول بكثرة في أماكن مختلفة من سوريا والذي يحمل عنوان (سوريا الأسد)، وهذا ما يفسر عملية توريث السلطة التي مرت بمنتهى السلاسة، ولكن لدواعي تظهير الرئيس الشاب المثقف الإصلاحي تم حجب صوره خلال الأشهر الأولى من حكمه مع الوعود الإصلاحية الكبيرة التي فسحت المجال لإطلاق ما سمي بربيع دمشق سنة 2000 الذي لم يلبث أن انقلب خريفًا.

من هذه الزاوية تشكل الثورة السورية الحالية حالةً من نزع يد الطاعة السياسية، وكفرًا بعبادة الفرد، وسعيًا لدَنْيَوَة الحياة السياسية والسلطة السياسية، وهذه “الدَّنيَوَة” أخذت مظاهر عديدة منها اللافتات والشعارات الساخرة من شخص الرئيس وخطاباته، أو عبر هتافات لعن روح الرئيس الأب، بل إن تلك الظاهرة تفسر لماذا بدأت الثورة في سوريا بهدم الصور والتماثيل للأسد الأب والابن معًا منذ أسبوعها الأول، على حين أن ثورة مصر – مثلاً – انتهت إلى ذلك، فقد عكس ذلك كفرًا بسياسة عبادة الفرد الرمز الخالد. كفرٌ التقطته الفنانة مي سكاف حينما تجرأت من داخل دمشق وكتبت تعليقًا حمل العنوان التالي: (إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد) انتقدت فيه عودة انتشار صور بشار الأسد بكثرة في الأماكن العامة وعلى زجاج السيارات، معتبرة ذلك وسيلةً لترهيب الآخرين وليس تعبيراً عن الحب والولاء!. وهو توجهٌ أكده بعد ذلك بيانٌ لجميع تنسيقات الثورة نص على ضرورة إسقاط اسم (الأسد) من على المباني والمنشآت العامة كمكتبة الأسد ومشفى الأسد، ووضع كلمة (الوطني) مكانها، في محاولةٍ لاستعادة الوطن من أسر الفرد/العائلة.

وإذا كان الأسد الأب امتلك بعض الخصائص الفردية التي جعلت تقديس الحاكم هو الخاصية الوحيدة المميزِّة لقوة نظامه، فإن افتقار الأسد الابن لذلك هو سر تأزم المنظومة التسلطية في سوريا وتَضَعضُعها؛ لأن توريث السلطة لم يعنِ أبدًا توريث مقومات الوراثة التقديسية!. وقد حاول صانعو خطاب التقديس هذا أن يتغلبوا على هذه المشكلة، فانتهجوا في بادئ الأمر سياسة رفع صور بشار الأسد من الأماكن العامة في أوائل فترة حكمه، ثم لم يلبثوا أن أعادوها وبكثافة غير معتادة، مع ابتكار عبارة “منحبك” لاحقًا لإعادة تعريف العلاقة بين الرئيس (الشاب) ورعاياه على قاعدة (الحب)، في علاقة تغيب فيها السياسة ومُستتبعاتها بالكلية!.

إن ظاهرة تقديس شخص الرئيس بكل صورها وتجلياتها، تشكل مدخلاً مهمًّا لفهم التاريخ السياسي السوري المعاصر خلال العقود الأربعة الماضية، فلم تكن هناك ظاهرة تقديس سياسي مدعوم من السلطة قبل مجيء الأسد الأب، وتعكس كثافة استخدام الرموز جملة من الأمور، أبرزها أن افتقار النظام إلى الكاريزما يدفعه إلى الإفراط في الرموز لإنتاج سلطته السياسية وضمان احتفاظه بها، كما أن هذه الظاهرة تحيل إلى أبعاد أخرى للسياسة، فهي لا تتركز على المصالح المادية فقط، بل هي أيضًا سعيٌ من قبل الأنظمة الشمولية إلى الاستحواذ على عالم الرموز والمعاني، وفرض الوضوح الأخلاقي والعبث بالمعايير والمضامين لتزييف الوعي بهدف الاحتفاظ بالسلطة.

وتوظيف الرموز يأتي لتحوير الانتباه عن المعاني الحقيقية والفعل السياسي الحقيقي وعن الأداء السياسي والاقتصادي المتعثر إلى مساحات هامشية أو ألفاظ بلاغية، فتوظيف الرموز يعزز السلطة السياسية ويوضح مفاهيم الطاعة والسلطة والمشاركة ويعيد تعريف العضوية الوطنية حتى يصبح من ينتقد الرئيس خائنًا. إن أحد أهداف العروض ضبط الناس والتحكم بهم وفرض الطاعة السياسية عليهم، وهي غير معنية إطلاقًا بالمقدرة الإقناعية، أو بأن تكون أطروحاتها منطقية أو متماسكة ومنسجمة، فهي قد تقول الشيء ونقيضه، وهي تخلط بين الاعتقاد القائم على المراءاة والاعتقاد الحقيقي. صحيحٌ أن النظام استطاع لعقود أن يفرض “الامتثال” لإكراهاته، ولكنه لم يستطع أن يفرض القناعة، فقد أتت الثورة لتكشف عن البعد العميق والحقيقي للوعي والاعتقادات بعد عقود من القهر.

() كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى