صفحات الثقافةعلا شيب الدين

سوريا: صورٌ راهنة للتقهقر..صار الغيم المرسوم على سماء البوط العسكري ماطراً براميل متفجرة/ علا شيب الدين()

 

 

انتقاد الذات

كمِثل جلّ البدايات التي تحتاج إلى حماسةٍ كبرى؛ كنتُ وغيري في محافظتي السويداء، في بدايات الثورة السورية، أهدرُ من الوقت والطاقة، وأحرقُ من الأعصاب، الكثيرَ مما ظننتُه «سيغيّر العالم»، ويحثّ «البخلاء»، على فتح النوافذ لكي «يروا». لكي يقولوا كلمة واحدة فقط، من أجل حرية سوريا وكرامتها. كان ذلك قبل أن تبهتَ لديّ، بعد مرور سنوات مديدة، معمَّدة بالدماء والأشلاء، «طفلنةُ« «تغيير العالم« واستنهاض «البخلاء« الذين ليس من شيمهم العطاء، أو الانتفاض والثورة.

ذات لقاء، في صيف 2011، أتذكّر أني «جاهدتُ» في سبيل حثّ سيدة على تركِ سياط كلماتها، والكفّ عن قولِ «كنّا عايشين أحلى عيشي»، وعن جَلدِ الناس التوّاقين إلى الحرية عبْر نعْتهم بـ»الإرهابيين». لكنّي بعد دقائق قليلة، اكتشفتُ أن «الحرية» هذه، كانت مجرّد كلمة فضفاضة، يشقّ على السيدة، الاهتداء إلى معنى واحد حتى، من معانيها الخصبة، وأن «سوريا» هي أيضاً كانت مفهوماً شديد العمومية والتجريد بالنسبة إليها؛ فقلتُ في سرّي: «لأقرّب المسألة، بحيث تصبح حميمة تمسّ الذات مباشرة، وتهزّ على المستوى الشخصيّ، ما دام التعاطف مع الآخر والعام، غير مقدورٍ عليه». رحتُ أذكّرها بعمرها المتقدّم، وبأنها «يجب» أن تطالب لو بالحد الأدنى فقط من الحقوق، خصوصاً أنها خرجت خالية الوفاض، من وظيفة حكومية، أفنت نصف عمرها في خدمتها. وظيفة مؤقتة بشكل دائم، لم يجرِ تثبيتها فيها، على الرغم من أنها زاولتها طوال عقود؛ قبل أن تخرج منها بلا راتب تقاعديّ، ولا تأمينات ولا ضمانات قد تمكّنها من عيش ما بقي من عمرها عيشاً كريماً. فما كان من السيدة إلا أن بادرتْ إلى «مجابهة» ذلك كلّه بـ»نقد الذات»، ذاتها، قائلةً: إن الحق دوماً كان عليها لا معها، وإنها كانت كسولة، فلو أنها بذلت مجهوداً وأكملت تعليمها؛ لحصلت على وظيفة جيدة ودائمة! أقول «نقد« الذات هنا، وأقصد «انتقادها»، لكون هذا الأخير ينزع إلى تقريع مجانيّ، إلى تحقير، وتبخيس وتبكيت، لغاية تبرئة المتسلّط وصبّ اللّوم كلّه على «موضوع» المتسلط عليه، أي «الذات» التي يجري الحطّ من شأنها وتثبيتها في موقع منحطّ. بينما يحيل «النقد» على معاني التبصّر كافة سلباً وإيجاباً، لغرض الارتقاء والتصويب وغيرهما من صور الحركة والدينامية.

ذاك اللقاء وما دار فيه من «نقاش»، المطروح آنفاً على سبيل المثال، قد يكون مألوفاً، فهناك الكثير ربما التقوا ويلتقون بمَن يلجأون في المواقف نفسها إلى «انتقاد» الذات نفسه، والسعي إلى تبرئة المجرم من خلال تعبير «كنّا عايشين» وأمثاله. قد يدفع ذلك إلى التأمّل: لقد كان هؤلاء المنتقدون ذواتهم الآن، هم أنفسهم من كانوا طوال عقود، شيمتهم «النقّ»، يشكون سوء أحوالهم الممضّ، يتذمرون«ع الطالعة والنازلة» في خصوص الأمور كافة، عدا أمرين ممثلَين خطَين أحمرَين، هما المتسلّط نفسه، والذات نفسها. ترى ما الذي جرى بعد اندلاع الثورة، حتى صار «انتقاد» الذات بمثابة «منهج رصين»؟! قد يكون الأدنى إلى الصواب، تفسير ذلك بـ»العبودية المختارة»، تيمّناً بالمفكر الفرنسيّ لا بو يسيه في «مقالته» الشهيرة التي يربط فيها الطاعة والهيمنة معاً.

النوستالجيا

لا أظن أن تعبيراً لغوياً في إمكانه التدليل على الرغبة المهزولة في العودة إلى ماضٍ مهزول لا يعود، أكثر من تعبير «كنّا عايشين» الذي يعتصم به عادة الموالون لنظام الأسد في داخل سوريا، أو «كنتو عايشين»، حين يكون الموالون خارج سوريا (موالون لبنانيون مثلاً، لـ«حزب الله» وحلفائه في «الممانعة»)، كلّما شقّت على أولئك وهؤلاء، مناقشة هادئة، عاقلة، متوازنة، نيّرة، ومتبصّرة مستشرِفة من شأنها الردّ على الحجة العقلية بمثلها، وعلى البرهان العقليّ بمثله. تقول ضارباً مثالاً: «في الأصل، ثرنا متظاهرين حاملين الورود والرياحين، من أجل الحرية، وهذه تُترجَم سياسياً بالدولة المدنية الديموقراطية. دولة الحق والقانون«، فيجيبون: «شو طِلِعلنا(كُن) من هـ»الثورة»؟!. شو كان ناقصنا(كن)؟! الطبابة كانت مجانية. التعليم كان مجانياً. وكانت «المَرا» تمشي بالشارع الساعة الثالثة بالليل وما تخاف عكتر ما كان في أمن وأمان«! واضح ربما، أن الطابع السجاليّ للطرح والردّ هنا، لا يسمح بمناقشة كتلك الموصوفة، بسبب غياب عقل يجيد مجادلة أصوله، وبسبب عدم التناسب بين ذاتٍ قديمة كوّنها العسكر أو الاستبداد على مرّ عقود، وذات ثائرة جديدة لا تنكر الأصول بل تجادلها، وتسعى إلى تكوين نفسها بنفسها، من خلال تجربة تخطئ تارة. تصيب طوراً. ربما هنا يكمن بيت القصيد، فالوضع الجديد، بات يتطلّب ممَّن اعتاد عيشَ الاتكال والاتكالية، فاعليةً لا يستطيعها ولا يريدها، بعد طول استكانة، فقد كان زمان ما قبل اندلاع الثورة، هو زمان «الاتكال» طوعاً أو قسراً، على «دولة» ذات طابع مركزيّ متسلط، وديكتاتوري شمولي عسكريّ. المؤسسات فيها كلّها صورية. كل تفصيل فيها ممسوك ومراقَب من «الرعاة» والمخابرات. الناس فيها «رعايا» لا مواطنون، متّكلون لا مبادرون. كانت «الدولة المزرعة» هذه، هي الفاعل دوماً، والناس المفعول بهم دوماً، هم أداتها وفي خدمتها، تحرّكهم بالعصا، وبالحديد والنار، وتنقّلهم كالبيادق من وضع إلى وضع، ومن موقع إلى موقع. لذا، كان من الـ»طبيعيّ» أن «يرفض» التغييرَ مَن لا يريد التغيير ولا يقدر عليه، وأن يرفض، في المقابل، مَن يريد التغيير، الثباتَ والجمود، نزّاعاً إلى المبادرة القصوى. فـ»ساعة التاريخ والحركة لا تدقّ إلا بعد العمل الفعليّ». ليس الرفض هنا، بالنسبة إلى مَن يريد التغيير، مذهباً سلبياً من الوجهة النفسانية، وهو لا يؤدي في مواجهة ما هو «طبيعيّ» لدى المستكين إلى «كنّا عايشين»، إلى مذهب عدميّ. وما كان مكتملاً، لا يزيد ولا ينقص، بالنسبة إلى مَن لا يريد التغيير، نُسِف من جهة مَن يريد التغيير، لمصلحة ما هو غير مكتمل على الدوام.

في لوحة متداوَلة تحت عنوان «كنّا عايشين»، تمزج بين قوَّتَي الفكر والسخرية، ثمة شخص يرسم بريشته على أسفل بوط عسكري ضخم، شمساً وغيماً، وتحت «سماء» البوط، ثمة كرسي وطاولة عليها مأكولات ومشروبات تشير إلى رخاء واسترخاء. ربما تكثف اللوحة هذه، المأساة برمّتها. فقد «كنا عايشين»، نرسم و»نبدع» و»نعمل» بصعوبة مستبدة، «تحت سقف الوطن»، هذا الذي لا يُسمح بفعلِ أي شيء ليس «مَدعوساً» عليه «تحته»، وحين خرج مَن أراد أن يبدع حقيقة ويعمل بـ»سهولة حرة»، على «التحت» و»السقف» دفعة واحدة، استُبدل الدَّوْس بالقصف. صار الغيم المرسوم على «سماء» البوط العسكريّ، ماطراً براميل متفجرة.

في الحنين المَرضيّ إلى ماضٍ يجري «تقديسه» باعتباره كمالاً واكتمالاً: «كنّا عايشين»؛ ثمة تشوّه في مفهوم الزمن. هناك نظرة لا ترى ولا تحتمل إلا بُعداً واحداً ووحيداً للزمن. ترى ماضياً فحسب، تشرحه دوماً بالماضي نفسه. «كنا عايشين«، في معنى ما، يعني: كنا لا نخطئ، «مربّايين»، نحترم «سقف الوطن» وملتزمين «تحته». في «الحنين» نفسه، هناك منابَذة للحاضر والمستقبل، للثورة. للتجربة. لما لانهاية له من الأخطاء والإخفاقات التي من شأنها أن تصقل وتبلور، تبني وتطوِّر. «كنا عايشين» يعني: كنّا معصومين من الخطأ بالحبل والجنزير. كنّا معصوبي العيون لكي لا نرى ما «تحت سقف الوطن» من سجون، وأشياء أخرى مهينة ومُذلة. فليستمرّ إذاً، تنكيد عيش مَن «كانو عايشين»، لا يسمعون صراخ المعتقلين والمعذّبين، من خلال استمرار الثورة. فإما أن تعيش البشرية كلّها في أمن وسلام، وإما فليكن الجحيم مصيراً للبشرية جمعاء.

الندم

في مناداة درعا باعتبارها «مهد الثورة السورية»، يصادف أن نمرّ، بعد مرور أكثر من أربع سنوات، بتعبيرات لغوية من قبيل: «يا درعا شو كان بدنا بها صرعة»، وغيرها مما يتداوله البعض ممن هم مع الثورة في الأساس، ولا ينكرونها، بيدَ أنهم باتوا يائسين من كل شيء، بعدما لم يتحقق، بالنسبة إليهم، حتى الآن، أي شيء مما تمنّوه من الثورة. بعدما أمسوا يقاسون مرارة الفقد في المستويات كافة، متمنّين لو أن الثورة لم تندلع. إن الرغبة في العودة إلى زمان ما قبل الثورة هنا، تختلف عن الرغبة نفسها لدى أهل «كنا عايشين»، فالأخيرة تبدو كأنها رغبة ممزوجة بحقد، بتوبيخ الثورة وأهلها، في حين تبدو الرغبة في العودة المتقهقرة إلى الماضي لدى البعض من أهل الثورة، بمثابة ندم، وهذا بدوره يبدو بمثابة نكوص إلى مرحلة سابقة، ليس لأن المرحلة السابقة كانت جيدة بالنسبة إليه و»كان عايش» فيها على طراز «كنا عايشين» بالنسبة إلى المؤيدين للنظام، بل لأن المرحلة اللاحقة كانت صادمة بالنسبة إليه، حارقة جارحة، وباعثة على الاكتئاب الذي من شأنه هنا أن يفضي إلى أُمنية العَود.

إن القيم التي طالما اعتصم بها أهل الثورة في البدايات، التي تجلّى بعضها في هتافات من مثل: «يا بثينة يا شعبان/الشعب السوري مو جوعان»، وكان هذا ردّ أهالي درعا على محاولة مستشارة «الرئيس» آنذاك، «رشوة« الثائرين من خلال زيادة رواتب العاملين في الدولة. القيم تلك، وما شابهها، بات حضورها باهتاً مع تعاقب الأيام والسنين المُرّة، ومع تفاقم النكسات النفسية التي تدفع إلى تذكّر ماضٍ آمنٍ من الجوع وغيره من الكوارث. فالعلاقة بين النكوص والحاجة إلى الأمان قوية. الآن، لا أحد يقول إن «الشعب السوري مو جوعان»، وقد يتنازل البعض عن الحرية، على الرغم من كونها القيمة الأعظم طراً، في سبيل لقمة العيش. بل يتعاظم أحياناً الجشع والانتهاز، ويصير الزهد الأخلاقي الرفيع المهم البادي في هتاف أهالي درعا المترفّع عن قبول زيادة ساقطة في الرواتب، محلّ تندّر وسخرية ربما، جرّاء طول أمد المأساة وتفاقمها.

ولأن الكتابة في معناها الأهم، تكون غالباً بمثابة شهادة، أجدّدُ الكتابة عن مواقف مررتُ بها: كنّا نمشي في إحدى حارات بلدةٍ لبنانية في البقاع(جئتُ إلى لبنان من سوريا بتاريخ 13أيار2015، بعد طول عناء ومقاومة لفكرة مغادرة سوريا)، حين مررنا بصبيّ سوريّ لاجئ، تعرفه المرأة السورية اللاجئة أيضاً، التي كانت برفقتي؛ ندهتْ عليه وسألته سؤالاً، وما أن استدارَ الطفل مغادِراً، حتى انتبهتُ إلى جديلة شعره الطويلة. ساقَني الفضول إلى الاستفسار عن سبب إطالة شَعر الصبي، فقيل إنه «نِدْرْ»، وإن أهل الصبيّ يحلفون بألا يقصّوا شعر ولدهم إلا بعدما يرجعون إلى بلدهم. ثم استطردت المرأة: «يمكن يصير طول هالجديلة من هون لآخر هالطريق الطويل هاد، وما يرجعو. وما نرجع». قبل ذلك بلحظات كانت تقول «يا درعا شو كان بدنا بهالصرعة». يبدو أن الخيبة هنا تولّد معرفة قيمية أخرى، وتدفع إلى استعمال التعبيرات اللغوية الثائرة الأصلية في المجالات البعيدة عن أصلها الروحي، ويكون ذلك في الغالب، عملية مخيّبة للآمال، فالتعبيرات المرحّلة على هذا النحو تغدو عقيمة أو خادعة، لكونها تفقد فعالية تماسكها الروحي. لكن يبقى صحيحاً أن ما من قيمة جديدة متولدة، ستأتي لتتوهج في الموقد القديم. فالمعرفة تخرج من الجهالة، لكي يخرج النور من الظلمة.

الشماتة

هذه أيضاً واحد من ضروب من التقهقر، في انطوائها على رغبة جامحة في دفع الآخر العدوّ أو الخصم، إلى الندم حيال سلوكه الذي جرّ من وجهة نظره، البلادَ إلى الخراب العميم، ودفعِه تالياً إلى تمنّي العودة إلى ما قبل زمان الثورة، من طريق الشماتة هذه المرة. يزداد، على سبيل المثال، سجالٌ من طراز: «شفتو! لمّا كنا نحكيلكن ما كنتو تصدقو! خرجْكن الله لا يردكن»، يزداد جدلاً بفعل مفارقات وتناقضات تستنفد ذاتها في مواجهة عقبتَي «القبْليّ والبَعديّ» اللتين تحدّان من كل فكر وتفكير، متجاهلتَين الطفرات والتحولات داخل التجربة، والقيم الاختبارية والعقلانية الاستكشافية المفارِقة للعقلية التقليدية المتمسكة بالمعتاد والمألوف. إن سجالاً من هذا الطراز، لا يقتصر على ثنائية «موالي/ معارض»، بل قد يمتد ويتسع ليصير كأنه مواجهة الجميع للجميع المفتوحة، على طريقة «الكليّة» في لافتة من لافتات كفرنبل مثلاً، المؤرَّخة في14آذار2015:»الكل يموت والكل لا يعجبه الكل، الكل صواب والكل خطأ، الكل خوّان وسارق، والكل شريف ونظيف». كأن الكل يقول للكل:»شِفتو!». المفردة الأخيرة الشامتة هذه، التي قد تتضمّن فرحاً علنيّاً تارة، ضمنياً ماكراً طوراً، حيال ما يلحق بالخصم من أذى مادي ومعنوي؛ تحيل على زعزعة ما اتُخذَ من قرارات وإجراءات ومواقف من الخصم الواقع عليه إحساس الشماتة وسلوكه، والسعي، من ثم، إلى التفكير في تثبيت الماضي، قبل اتخاذ ما اتُخذ، باعتبار الماضي، الخير القديم في مواجهة الشر الجديد المنبعث من الخروج على القديم.

قد يكون جديراً بالمعرفة، أنّ الاضطرابات والتقلّبات والتباينات غالباً ما لا تزعج مَن يفكّرون. أولئك الذين غالباً ما يتعاطون معها باعتبارها تفاصيل نافلة، بالقياس على زمان مديد، وتاريخ جديد يجب أن يولد؛ لكنها تدفع إلى تقويض الآخر لدى مَن يقفون عندها بوصفها مصيراً كارثياً مسدوداً. إن الثورة التي هي فوضى عدمية، بالنسبة إلى مَن يمقتون التغيير؛ هي فوضى ما قبل الترتيب والأناقة، أو التي تؤسِّس في معنى ما، لحرية حقيقية مُقبِلة، بالنسبة إلى مَن يريدون التغيير. إنها انقلاب لغة عقلية وجسدية على لغة عقلية وجسدية. لذا، ربما يُفترض أن يكون سؤال الراهن، ليس «ما العمل«؟ على رغم أهميته. بل كيف نبدأ بالعمل؟ كيف نحدّد نقطة الانطلاق؟

التقبيل

إن ظاهرة تقبيل البوط العسكري، لدى بعض مؤيدي الأسد ونظامه، داخل سوريا وخارجها، في الميدان وعلى الشاشات، فضلاً عن وضعه على الرأس، وإقامة نُصُبٍ تذكاريّة له، على إثر اندلاع ثورة ضد العسكر والحكم العسكري في المقام الأول، وتحطيم أصنام الديكتاتور العسكري حافظ الأسد، في مدن وبلدات سورية مختلفة؛ إن الظاهرة تلك، لُأمر مثير للذهول، مستفزّ ومحرّض على السؤال والدرس والبحث في شأنه. البحث السيكولوجيّ على سبيل التخصيص.

في القُبلة، بالنسبة إلى المشتغلين في التحليل النفسي، هناك حنينٌ إلى الماضي. عندما يكبر الشخص، بالنسبة إلى فرويد مثلاً، وهو مؤسس التحليل النفسي، يروحُ يحنّ إلى ماضٍ كان يمصّ فيه حلمة ثدي الأم حين كان وليداً، فيحوّل المصّ إلى تقبيل. يبدو هنا أن ثمة حنيناً ربما لدى المؤيد، إلى ماضٍ كان الحكم العسكري فيه مهيمناً بالمطلق، وكان الحكم هذا مرموزاً إليه بالبوط العسكري، بالنسبة إلى المؤيد، هو السبيل الأوحد لتأمين الغذاء والحياة على غرار ثدي الأم بالنسبة إلى الوليد. كم هي كثيرة القصص التي قرأناها أو سمعناها، تروي كيف أن هذا الشخص أو ذاك مات وهو يُرفَس ببوط عسكري في المعتقَل، بالتزامن وصياح مفاده: «تعادون الرئيس! وَلَكْ الرئيس هوّي اللّي شبّعْنا(كن) الخبز».(هناك مثال مرعب في هذا الخصوص، يرويه وتفاصيل أخرى، بلغة وأسلوب مؤلمَين مشلِّعَين، مصطفى خليفة في روايته «القوقعة»). يزعجني أن أعمدَ إلى المقاربة السيكولوجية هذه، لما فيها من «خلط» ربما، بين قمة الجمال وحضيض القبح، غير أنّ للضرورة السيكولوجية، أحكاماً قد يلوي «إزعاجَها» الآتي: يُحكى أن الشعراء الإغريق كانوا يسمّون القُبلة «مفتاح الجنّة». ترى ماذا يمكن أن تُسمّى قُبلة البوط العسكري؟ لا شكّ أنها كما اعتقدَ الصينيون، أن القُبلة عموماً، «عمل وحشيّ يذكّر بآكلي لحوم البشر». قد تكون المقاربة هذه، أكثر ملاءمة لفعل تقبيل البوط العسكريّ، على مستوى الشكل، فهي تنأى بالأم وثديها ووليدها عن قبحٍ من هذا الطراز. هنا أيضاً ثمة تقهقر، في فعل تقبيل البوط العسكري. ثمة رغبة في عَودٍ إلى ماضٍ غابر كان اللحم البشريّ فيه يؤكَل. ترى هل ما جرى ولايزال في «سوريا الأسد وداعش»، واشتقاقاتهما محلّياً وإقليمياً ودولياً، بعيداً من الإرث البشري الرهيب هذا؟!

من منظور سياسيّ آنيّ، قد يشير تقبيل البوط العسكري، إلى الانحياز التام إلى حُكم العسكر، في قبالة حكم المتشددين دينياً. تالياً، محاولة كسب الرأي العام في هذا الخصوص، على الرغم من أن الرأي العام هنا يصعب كسبه، إذ تقبيل الأرجُل، على سبيل التبسيط، غير مقبول في الثقافة العامة، ومثير للاشمئزاز، فما بالك بتقبيل البوط؟!.

إن فعل تقبيل البوط العسكري، يقتل جلّ المعاني الإنسانية في ذاتها: الصداقة. العشق. الأمومة. الأبوة. البنوة. الأخوة. الجيرة. الحب. المصالحة بعد خصومة…إلى آخر ما هنالك من روابط إنسانية وعائلية حميمة، يرتبط كلٌّ منها بشكل معيّن من أشكال القُبلات. لماذا تقتل؟ لأن «الشفاه العاقلة. المُحِبة. العاشقة» لا تنحدر إلى مستوى تقبيل ما هو خاوٍ من الروح، من النبض، قد يوازي في ما ينطوي عليه من «عبودية مختارة» وغير مختارة، من تشوّه عميق في الذات المازوشية الممهورة بالتوتر والقلق والخوف، ممارسةَ الفرد الإنساني، الجنس مع حيوان!.

يحتاج التقبيل لكي يحقق الغاية الأنطولوجية منه، إلى عوامل تمنحه خصوصية جمالية وأخلاقية، من مثل: النظافة. الارتياح. الثقة بالآخر. الشّمّ. الصحة والسلامة، وغيرها. فهل هذا كلّه متوفر في علاقة التقبيل مع البوط؟! كنّا في السابق، حين نسمع رجاءً من قبيل: «بوسلك صرمايتك، بس كذا أو كذا»، نظنّه مجرّد لعبة لُغوية ليس إلا، أو دالاً يستحيل أن يصير مدلولاً. أمّا وقد شاهدنا بأُمّ الأعين كيف أنّ الأحذيةَ تُقبَّل؛ فإننا نكون قد صرنا في زمن انصهار الدال في المدلول، بامتياز!.

على النقيض من مَشاهد الركوع للطاغية، وتقبيل البوط العسكري، تبدو مشاهد كثيرة، صُوِّر فيها الثائرون وهم راكعون يقبّلون الأرض بعد انتصار ما على هذه الأرض السوريّة أو تلك، مقبولة ومستحبّة، مادامت الشفاه هنا في حِلٍّ من ملامسة روح «الأرض الأم». التقبيل هنا، يصبح بمثابة صلاة، عناق روحي من شأنه تكريم الأرض، والإنسان بوصفه معمِّرها لا مدمِّرها.

() كاتبة سوريّة

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى