أكرم البنيصفحات سورية

سوريا.. علامَ يراهن أصحاب الخيار الأمني؟


أكرم البني

 رغم مرور قرابة خمسة أشهر على بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا، لا يزال المشهد يتكرر: قوات أمنية ووحدات عسكرية تنتشر في معظم مناطق البلاد، تحاصر بعضها وتكثف وجودها في الأماكن الأكثر نشاطا وزخما، تستخدم مختلف أدوات القوة والعنف ضد جموع مسالمة من المحتجين، يخرج بعضهم يوميا وغالبيتها أيام الجمع.

يخرج هؤلاء في مظاهرات تختلف في أحجامها وأشكالها، تمتد من مدينة إلى مدينة ومن منطقة إلى أخرى، وتتعرض للقمع والتنكيل ولإطلاق الرصاص والغازات المسيلة للدموع، وتتكبد مزيداً من الخسائر.. ضحايا وجرحى ومعتقلين، لتعاود الكرة من جديد.

قدرة عالية على التضحية وعزيمة لا تلين يظهرها المحتجون في الدفاع عن مطالبهم في الحرية والكرامة، وأيضاً في التأكيد على سلمية ووطنية تحركاتهم وأنها عابرة للقوميات والأديان والطوائف والمذاهب، في مقابل تصميم أهل السلطة على اعتماد الخيار الأمني والعسكري لمعالجة هذه الأزمة المتفاقمة.

وهذا ما يعني ببساطة، إصراراً على سحق التحركات الشعبية الاحتجاجية بالقمع والعنف العاريين، واستخدام كل أشكال القهر والقوة وبلا حساب، لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، لإخراج الشعب من السياسة وتثبيت الخوف والرعب التقليديين في المجتمع.

وعلى تنفيذ هذا الخيار تتنافس أجهزة أمنية متعددة كأنها في سباق لفرض هيبتها بمزيد من إظهار قسوتها، فتطلق مخيلتها لابتكار كل جديد من شأنه إرهاب البشر، خاصة الإفراط في استخدام القوة والعنف لإشعار جموع المتظاهرين بعدم جدوى ما يقومون به، وأن تجاوز الحالة القائمة وتغيير الأوضاع ضرب من المحال.

يضاف إلى ذلك التفنن في إرهاق الناس واستنزاف قوتهم وقدرتهم على الاستمرار، في إشارة إلى الاعتقالات الواسعة والعشوائية، وإلى حصار واقتحام بعض المناطق والأحياء والضغط على حاجاتها وخدماتها وشروط معيشتها، ثم إشاعة بعض الصور والحكايات عن فظاعة القمع والتنكيل دون اهتمام بالتشهير الإعلامي، بقدر الاهتمام بوظيفتها في بث مزيد من الرعب والهلع في نفوس من لا يزالون مترددين في دخول الميدان والمشاركة.

فما جدوى الحل الأمني؟ ولماذا الإصرار عليه وقد عجز عن إخماد جذوة الانتفاضة في المدن والمناطق التي تعرضت للحصار والتنكيل؟ ألا يكفي استعراض صور المناطق التي شهدت تطبيقه ورجوع الناس إلى التظاهر فور انحسار الضغط الأمني والعسكري؟

فالقمع على شدته لم يستطع إخافة المواطنين، بل وسع مناطق الاحتجاج وزاد عدد المحتجين، ولنقل أظهر معادلة جديدة، أنه كلما ازداد العنف ارتفع سقف المطالب واتسعت حركة الاحتجاجات.

الحقيقة هي أن الخيار الأمني عادة متأصلة عند هذا النوع من الأنظمة بسبب بنيتها التكوينية المعجونة بتاريخ طويل من القهر والغلبة، ولأن دولتها تنتمي إلى ذاك النوع المسمى “الدولة الأمنية” التي تستمد حضورها وقوتها من أجهزة أمنية تدير كل شيء وتتدخل في مختلف تفاصيل الحياة، مدعمة بثلاثية الإرهاب والأيدولوجية والإعلام الموجه، للهيمنة وضمان احتكار السلطة والثروة، ولزرع الخوف والرعب وخنق الفضاء السياسي، ولاحتكار الحقيقة والوصاية الوطنية.

وما يعزز هذا الخيار قوة لوبي الفساد المنتشر في مختلف الدوائر والمؤسسات، وتشبثه الواعي بمصالح وامتيازات لا يريد التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو كان الطوفان، ثم عجز النخبة الحاكمة المزمن عن تعديل طرائق الهيمنة، حتى لو اضطرت إلى ذلك، لأنها تخشى الانفتاح على الناس وتتحسب من القيام بأي مبادرة سياسية جدية لتخفيف حدة أزمتها، كأن أخاك مكره لا بطل!

وأحد وجوه هذا الإكراه هو تنامي شعور لدى أصحاب الحل الأمني بأنهم بعد ما اقترفته أياديهم قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة، وأنهم يخوضون معركة حياة وموت يرتبط وجودهم ومستقبلهم بنتائجها، خاصة أولئك الذين أوغلوا في ارتكاب جرائمهم ويخشون ساعة الحساب والعقاب!

وربما يكون السبب أن لديهم وفرة من التجارب تعزز ثقتهم بأن العمل المجدي لدوام السيطرة ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم، بل الاستمرار في إرهابهم وشل دورهم، ربطاً بسوء تقدير ولنقل بتضخيم للذات والاعتقاد بأن ما كرس من قوى قمعية يشكل ركنا راسخاً لا يمكن بأي حال زعزعته.

لكن إلى جانب الأسباب الذاتية والبنيوية السابقة، ثمة رهان لدى دعاة الخيار الأمني على توافر مناخات موضوعية وشروط محايثة لتسويغ خيارهم والمد من عمره، ولنقل منح أصحابه المزيد من الفرص لتجريب لغة القهر والعنف!

الرهان أولاً، على تغطية إعلامية موجهة ومضللة لتغطية ممارسات القمع والتنكيل وامتصاص ردود الأفعال المحتملة ضدها، من خلال الأحاديث عن متآمرين ومندسين يرتبطون بأجندة خارجية، إمبريالية وصهيونية، غرضها النيل من الموقف السوري الممانع، وعن عصابات مسلحة تعيث، قتلاً وتدميراً في العباد والبلاد، أو من خلال ما تيسر لهم من مناورات سياسية، كدعوات الحوار مع المعارضة مثلاً والإعلانات المتتابعة عن مشاريع قوانين إصلاحية.

ومثل ذلك يكون العزف على وتر التحذير من خطورة تغيير الأوضاع والتهويل بأنه الخيار الأسوأ أمام انهيار الدولة واحتمال فوضى لا تبقي ولا تذر، أو حضور تيار إسلامي أو سلفي متشدد يتحين الفرصة للانقضاض على السلطة والمجتمع وفرض أجندته.

وهنا يمكن أن نشير إلى توظيف مبالغ فيه ومغرض لما تعانيه الثورتان التونسية والمصرية من اضطراب وعدم استقرار، وما يكابده الثوار في ليبيا واليمن مع استمرار حالة العجز عن الحسم، واستنتاجاً إظهار كم هي التكلفة كبيرة وباهظة لقاء ثمار التغيير الهزيلة التي قد تأتي بما لا تشتهي سفن الناس ومطامحهم!

والغرض تشجيع الدفاع عن الوضع القائم وكسب بعض المترددين، خاصة الذين قرنوا ترددهم ببديل أفضل.

وإذا كان ما تعانيه الثورتان التونسية والمصرية من صعوبات وإرباكات، هي صعوبات مفسرة واختبارات مفهومة لمجتمعات تمر بمرحلة انتقالية، بعدما حطمها القمع وأدمنت السلبية والاتكال، فهي لحظة عابرة صوب أمل ووعد بمجتمع صحي معافى، ويفترض أن لا تفضي إلى زعزعة الإيمان بالموقف الصائب من حالة الاستبداد والفساد وما سببته السلطات القديمة وأساليبها القمعية والإقصائية، بصفتها المسؤول الرئيسي عما نعيشه الآن.

والرهان ثانياً، على دور العنف المفرط والاضطهاد المعمم في إثارة ردود أفعال عنيفة موازية، وفي استنفار الغرائز المتخلفة واستفزاز بعض المتطرفين ممن يتحينون الفرصة لحمل السلاح، من أجل خلق ذريعة أو حجة أمنية لاستمرار الأسلوب الأمني، وفي الطريق تمزيق لحمة المحتجين وبلبلة صفوفهم بخلافات حول تبرير العنف أو التأكيد على أخلاق الانتفاضة السلمية.

وما يزيد الطين بلة أن ما يجري أشبه بلعبة عض للأصابع، لكنها من جانب واحد، فلقاء حقهم في التظاهر يتعرض الناس للأذى والألم، ويمكن لكل مطلع على ما تملكه الأجهزة القمعية من أدوات وخبرات أن يقدر حجم الصبر والجلد المطلوب من الناس لمتابعة احتجاجاتهم بصورة وطنية وسلمية.

وإذا أضفنا ما أثارته مناورات السلطة السياسية ودعواتها للحوار الوطني من إرباكات واهتزاز في الثقة بين بعض المعارضة السورية والناس، وأيضاً المحاولات المتكررة لإثارة الفتنة والصراعات الأهلية لحرف الحراك الشعبي عن أهدافه السياسية، يمكن أن نقف عند أهم الشروط والمناخات التي يحاول دعاة الحل الأمني الإفادة منها للحفاظ على تماسكهم وتعزيز ثقتهم بجدوى ما يفعلون وتالياً لتبرير استمرار لغة القوة والقهر.

والرهان ثالثاً، على ضعف ردود الأفعال الدولية والعربية ضد ما يطبق من قمع وتنكيل بحق المحتجين والمتظاهرين، مما يمنح أصحاب الخيار الأمني هامشاً واسعاً للحركة، ويترك الباب -رغم حالة الجفاء بين النظام السوري وبين معظم الدول العربية والأجنبية ومؤسسات الشرعية الدولية- مشرعا للتوغل في العنف أكثر فأكثر، إن لجهة حجم القوة المستخدمة أو لجهة الزمن والفرص!

ونسأل: ألم يعزز هذا الصمت العربي المريب تجاه ما يجري في سوريا، موقف أصحاب هذا الخيار ويزيدهم ثقة وعزيمة على الاستمرار بأساليبهم؟

ومن نفس القناة يمكن النظر إلى الموقف الروسي الذي لا يزال يعيق إصدار قرار أممي يدين لفظاً العنف المفرط ضد المدنيين، وأيضاً إلى ما يشاع عن دعم اقتصادي ومالي كبيرين قدمتهما بلدان عربية وإقليمية للنظام السوري، مما يعزز قدرته على المواجهة وتعويض ما خسره بسبب معركته الأمنية الداخلية المتزايدة الضراوة.

ما سبق يمنح دعاة الحل الأمني بعضاً من الوقت لتجريب قوتهم وأدوات قهرهم، لكنه ليس وقتاً مفتوحاً، فالأزمة في تفاقم مستمر والأسباب السياسية للاحتجاجات الشعبية تزداد وضوحاً وحضوراً، كاشفة هشاشة التبريرات وزيف الذرائع المسوغة لاستمرار العنف. وكلمة انكشاف لا تعني ظهور أمر غامض أو جديد بقدر ما تعني انهيار القدرة على التغطية والتمويه.

إنه ضرب من الضياع والتوغل في المجهول، الاعتقاد بأن الأساليب القمعية التي أثبتت فعاليتها -ولنعترف- في الماضي، يمكن أن تكون فعالة أو مجدية اليوم.

ففي ذلك تنكر لشمولية الأزمة الراهنة وحدتها وتجاهل ما حصل من مستجدات إقليمية وعالمية، خاصة إدراك عمق هذه التحركات الشعبية وحيويتها، وأنها تجري ضمن نسق عربي يطرق أبواب التغيير الديمقراطي مستندة إلى تبدلات جوهرية في أنماط التفكير وطابع التفاعلات السياسية بين الناس وعزمها على أخذ قضيتها بيدها!

وبعبارة أخرى يبدو مع كل لحظة تمر أن الحل الأمني عاجز عن إخماد نيران الحراك الاحتجاجي، وأعجز عن إحداث التحول في التوازنات التي تريدها السلطة، ولا ينفع هنا تكرار التصريحات بأن الأمور بخير وأن الأزمة انتهت.

وكذلك لا تنفع المقارنة مع ما حصل عام 1982، حين تمت تصفية تمرد الإخوان المسلمين في مدينة حماة، وحين كان الحل الأمني يحظى بتغطية دولية واسعة وبظروف داخلية ملائمة لجهة أن الأحداث شملت مدينة واحدة، في ضوء حياد قطاعات واسعة من الناس وخوفها من الأصولية الإسلامية التي شكلت عنوان ذاك التمرد.

أما اليوم فإن المظاهرات تشمل غالبية المدن والمناطق السورية، والناس الذين أزاحوا عن صدورهم بعبع الخوف، ليس عندهم ما يخسرونه مع انسداد الأفق أمامهم وتعاظم شعورهم بالظلم وغياب العدالة..

وهم يستمدون الجلد وعزيمة الاستمرار والحيوية والأمل من نجاح الثورات العربية الأخرى، والأهم أنهم يعتقدون بما يشبه اليقين أن التراجع وانتصار الحل الأمني سيقود إلى وضع أكثر سوءاً ومكابدة، مدركين أن الزمن يسير لصالحهم، وأن إصرارهم -رغم التضحيات الكبيرة- على استمرار المظاهرات والاحتجاجات حتى وإن لم تحقق حسماً سريعاً، سيذهب بالخيار الأمني إلى الفشل، ويفتح الآفاق على معالجات من نوع آخر، وتحديداً إن حافظت التحركات على وجهها السلمي وحاصرت ما قد يشوبها من اندفاعات عنفية.

ويبقى السؤال: هل يفتح الإصرار على الحل الأمني والعسكري أبواب البلاد على المجهول؟ وأوضح ما فيه، المزيد من العنف والتنكيل، وانتشار الصراعات على غير هدى، واستدراج المزيد من العزلة والحصار والتدخلات الخارجية، والأهم ما سيتكبده النسيج المجتمعي ومستقبل الأجيال من أضرار فادحة..

 أم هل تنجح التحركات الشعبية في تفكيك الطرائق والذهنية الأمنية القديمة التي تدار بها الأزمات والتي أورثتنا ما نكابده من تأزم وفشل وفساد وإحباط، وتالياً في قلب حالة الركود والاستنقاع المزمنة والالتحاق بقطار التغيير الديمقراطي الذي يصل محطاته بالتتابع، مبشراً ببناء مشهد عربي جديد؟

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى