صفحات الثقافة

سوريا على خطى أطفالها


    روجيه عوطة

بدأت التظاهرات الدرعاوية التي أشعلت فتيل الحراك الشعبي في كل المدن السورية مع اعتقال تلاميذ إحدى المدارس في درعا البلد، وتعذيبهم بفظاعة. فقد اقتلع رجال الأمن أظفارهم وأحرقوا جلودهم بالسجائر وأبرحوهم ضرباً حتى سال الدم من أجسامهم الصغيرة. ما كرّسه الأمن في الحادثة المدرسية، من اعتداء على الأطفال وتعنيف لهم، عمل به البعث عندما اشتدت المواجهات لتدجين المجتمع وتجنيد أطفاله ليصبحوا جنوداً في صفوفه. فرحلة الأطفال في سوريا الأسد، تبدأ من معسكرات الطلائع وتنتهي في المجزرة.

“نحنُ جيلُ البعثِ أشبالُ الطلائعْ/ عن حمى الثورة والحزبِ ندافعْ/ نغمة الرشاش أو عزف المدافع/ ‏رقصة الموت لهيباً في دمانا‏” (وليد مشوح، من أناشيد المجد).

يقال إن  الطفل حمزة الخطيب كان يحلم بأن يصبح شرطياً، إلا أنه تخلى عن هذا الحلم عندما رأى البوليس البعثي يعتدي على الناس ويقتلهم في التظاهرات. التخلي عن الأحلام هو أساس الطفولة التي يريدها البعث للصغار، الذين ما إن يولدوا حتى يصبحوا من “طلائع البعث”، وينتسبوا إلى “المنظمة الوطنية للطفولة السورية” التي تحضّر الأطفال ليصيروا كائنات إسبرطية، تحارب دفاعاً عن الرئيس. وقد أسس حافظ الأسد هذه المنظمة عام 1974، ونص قانونها الداخلي على الإحتفال بعيد ميلادها في الخامس عشر من شهر آب من كل عام تخليداً للزيارة التي قام بها الأسد لمعسكرات الطلائع في سهل الزبداني عام 1975. وجاء في “القانون الطليعي” أن على الأطفال أن يحبّوا “القطر العربي السوري والوطن العربي وحزب البعث العربي الإشتراكي”، وأن يؤمنوا بـ”الأهداف القومية للأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية”.

يجوز اللعب الطليعي في معسكرات البعث إذا كان مقروناً بالإذعان لمقولات الحزب والرضوخ التام لقائده، الذي إذا لم يظهر وحيداً كالمخلّصين والمنقذين، يظهر محاطاً بالأطفال، حاضناً إياهم بين ذراعيه، أو واضعاً يده على رؤوسهم، ومربتاً أكتافهم، ومعتنياً بهم. كل الطلائع أطفال، بالنسبة الى الطاغية، ولكن ليس كل الأطفال طلائع، فالطفل الذي لا يرتقي إلى طبقة الطلائع، بالمعنى الإسبرطي، هو كائن لم يولد بعد، لذا يحتاج إلى “والد” ليصير طفلاً، قبل أن يتحوّل جندياً ويطلب حماية “الأب”.

حضور الرئيس إلى جانب الأطفال يجعله طفلاً طليعياً، فيتصرف مثلهم تماماً، يبتسم ويمرح على الدوام، وعندما يغيبون عنه ويبقى وحيداً، يستمر في الإبتسام والضحك ويلوّح بيده للجماهير. صورته التي تريد دعاية النظام أن تنشرها، هي صورته في الطفولة. فمرةً يكون “الوالد”، ومرةً “الأب”، وفي الحالين هو طفل “يلعب ويغني ويمرح ويبتسم دائماً”، بحسب عبارات “القانون الطليعي”. هذه الصورة الطفولية تقدم الرئيس كرجل لطيف ومحبوب وقريب من الناس، ولا يؤذي أحداً. لكأنه طفل يعطف على الجميع، والجميع يعطف عليه.

 السياق التاريخي الذي وصل فيه بشار الأسد إلى الحكم، أي سياق التوريث، يكثّف معنى الصورة الطفولية، فهو “الإبن” الذي ورث السلطة من أبيه، وظل إبناً له حتى اليوم. صورته الدعائية تشبه إلى حد بعيد تلك الصورة الفوتوغرافية التي تجمع الأسد الأب وإبنه بشار مع معمر القذافي وإبنه سيف الإسلام، حيث يظهر فيها الإبن ضاحكاً بينما ينظر الأب نحوه مبتسماً. أظن هذه الصورة تلخص علاقة الإبن بالأب. منذ تلك الجلسة الديكتاتورية بامتياز، يحاول بشار جاهداً إزاحة نظرات والده عنه، فإذا به يضحك مثله، ويظل طفلاً يعيش في صورة أبيه وفي دبابته.

أوّل القتل

في الثامن عشر من آذار 2011، استنشق مؤمن منذر المسالمة الغاز المسيل للدموع في مدينة درعا، وفي صباح اليوم التالي، مات اختناقاً عن عمر يناهز 11 عاماً. مؤمن هو الطفل الأول الذي قتلته القوات الأسدية. بعد فترة، أطلق الأمن البعثي النار على تظاهرة في منطقة إزرع الدرعاوية، ما أدى إلى قتل الطفل أنور فاضل العبيد بعيار ناري في رقبته. في اليوم نفسه، قتلت الطفلة إسراء محمد يونس في منطقة برزة البلد بدمشق، جراء إصابتها بطلق ناري في عينها بينما كانت داخل منزلها. هؤلاء الأطفال الثلاثة، مؤمن وأنور وإسراء، كانوا الضحايا الأوائل لنظام الأسد.

لكن ما شاهده السوريون في إحدى ليالي أيار من ذلك العام على موقع الـ”يوتيوب”، أكد لهم أن آلة الأسد المجرمة تستهدف الأطفال مثلما تستهدف البالغين نساءً ورجالاً. ففي تلك الليلة السوداء، بُث فيديو مقتل الطفل حمزة الخطيب. لم تكن جثته تشبه جسده يوم خروجه من المنزل في “جمعة الغضب”، الذي دعا الناشطون إليها لفك الحصار البعثي عن أهل درعا. ما حصل أن الشبّيحة ألقوا القبض على حمزة في منطقة الجيزة وعذّبوه وقتلوه رمياً بالرصاص بعدما شوّهوا جثته التي بدت منتفخة جدا، وكسروا عنقه وقطعوا عضوه التناسلي. عاقب النظام حمزة الخطيب لأنه تخلى عن حلمه بأن يصبح شرطياً طليعياً، يقمع ويعذب ويقتل. عاقبه لأن موضوع حلمه يناسب استراتيجيات السلطة العسكرية. فأن يصبح المرء شرطياً يعني أنه سيحمي النظام ومن يمثله، ولن يحمي الناس. مأساة حمزة أن النظام عاقبه لأنه حلم، ثم لأنه تخلى عن حلمه. وقد عاقبه “الشرطي” نفسه الذي كان موضوع حلمه.

من قتل حمزة أراد أن يخبر أهله وباقي السوريين أنه لن يرحم أحداً من الذين يقفون ضده ويعارضونه، وأنه لا يميّز بين طفل وبالغ، فالعدو له هو كل واحد تسول له نفسه رفع الصوت ضده. لكن النظام أخطأ مرة أخرى، إذ خرجت تظاهرات عالمية تندد بموت حمزة البشع، وصدحت فيها أغنية الفنان الكردي شيفان: “ها أنا أغنّي للحمزة علي الخطيب… كان في ربيع عمره تعرف على العصيان وقع أسيراً بين مخالب شتاء الطغيان، ها أنا أغني”. كالعادة، تملص النظام من جريمته، فنشر أخباراً على قنواته يقول فيها إن حمزة “كان ضحية جو إرهابي وهّابي عائلي ومجتمعي فهو لم يخطف من بيته ولا من مدرسته ولا من الشارع بل قتل وهو يهاجم مساكن الضباط بشهادة والده”، والبعض روى أن الفتى كان في طريقه إلى درعا لـ”سرقة المنازل وقتل الرجال وسبي النساء”!

منذ حادثة اختناق مؤمن المسالمة، وأعداد الأطفال القتلى في تزايد مستمر. فحتى الساعة قُتل أكثر من 1200، يتوزعون بنسب متفاوتة بين المدن والمناطق السورية. النسبة الكبرى قضوا نحبهم في محافظة حمص، التي قتل فيها 560 طفلا، وفي حماة 167، وفي إدلب 119 إلخ. سجلت إحصاءات المنظمات المدنية وتقارير الناشطين الميدانيين، أن أكثر من 750 من الضحايا هم دون العشر سنين. وأشارت التقارير الإنسانية إلى تعدد وسائل قتل الأطفال، برصاص القوات العسكرية والأمنية، وبالقنص، والقصف، والذبح، والخنق، والتعذيب في السجون، وغيرها من الأساليب العنيفة. كما سُجل موت أعداد كبيرة من الأطفال نتيجة قطع الكهرباء عن المستشفيات والمراكز الطبية، وهذا ما جرى منذ بعض الأشهر في “مستشفى الوليد” بحي الوعر القريب من بابا عمرو في حمص، حيث قطعت السلطات التيار الكهربائي عنه، ما أدى إلى موت نحو 20 طفلا في، وكانت القوات الأمنية دهمت المستشفى واعتقلت الجرحى كباراً وصغاراً واقتادتهم إلى جهة غير معلومة.

من الخفة إلى الخفة

ارتكبت سلطات البعث الكثير من المجازر راح ضحيّتها مئات الأطفال، من مجزرة الصنمين إلى مجزرة القبير ومجزرتي كرم الزيتون والحولة. عندما تذبح قوات النظام الأطفال بالسكاكين والحراب في هذه المدينة أو تلك، تجاهر بخفة الموت. فموت الطفل، بالنسبة الى العسكر والشبّيحة، لا وزن له، فهم يقتلون كل طفل كأنهم في نزهة سريعة، تساعدهم طراوة لحمه وعدم مقاومته آلة القتل. يُمرّ المجرمون سكاكينهم على أعناق الأطفال، ذهاباً وإياباً، فتندلق أحشاء الرقبة إلى الخارج، ويندلق الصمت. في هذه اللحظة، يستيقظ الأطفال في أحلامهم وتشخص عيونهم إلى الأعلى. لقد حدقت عين الطفل المذبوح في عين الشبّيح الذابح. لقد كشط المجرم الضوء عن وجه الطفل، وبقر صوته: لا صوت يعلو فوق صوت المجزرة، إلا أنين الباقين من بعدها. هذا الأنين يكثّفه الصمت الخارج من أعناق الأطفال المذبوحين بخفة تشبه خفة موتهم. بالنسبة الى المجرمين، الأطفال كائنات غير موجودة البتة، لكن القضاء عليهم يأتي من باب الترهيب والوقاية. فالنظام يرهب الناس بمشاهد الجثث الصغيرة المروّعة، مهدداً إياهم بوضع أطفالهم مكان الأطفال المقتولين. يلجأ إلى الوقاية، التي هي وسواسه القاتل، بحيث يقضي على الأطفال تحسباً من تحوّلهم معارضين ومنتفضين.

لا أحد يحمي الأطفال في سوريا، فقد تُركوا لرصاص النظام وسكاكينه وقذائفه وميليشياته. حتى الموت خجل منهم واحمرت خدوده، مثلما جرى لأطفال كرم الزيتون. خفيفٌ هو موتهم، لا وزن له، لكن الخفة أحياناً تكون سبيل نجاتهم الوحيد، فالطفل الناجي من مجزرة الحولة قال في شهادته إنه تظاهر بالموت أمام القتلى، ثم هرب حافياً إلى منزل الجيران حتى انتهاء المذبحة، فإلى بيته مكتشفاً موت أفراد أسرته جميعهم. لقد خدع الطفل علي السيّد سكّين المجرم ورشاشه، وتحايل على الموت وعَبَر المجزرة بخفة وصمت.

كي لا يصير للثورة “أشبالها”

انتهك البعث حقوق الأطفال تحت عناوين إيديولوجية ليست على مقاس الطفولة. تاريخه حافل بانتهاك حقوقهم بحجة توجيههم أو تدريبهم أو تنمية قدراتهم العقلية والجسدية، وتحضيرهم ليصبحوا مواطنين أسديين بعدما كانوا “أشبال القائد الأسد”. غير أن النظام الأسدي يتهاوى اليوم، وتتهاوى معه مؤسساته ومنظماته الحزبية، وفي مقدمها “الطلائع”. يتقدم الأطفال في سوريا نحو حريتهم. لكن هذه الحرية لا تكتمل إلا بحمايتهم، خصوصاً أن التظاهرات الأولى كانت قد انطلقت من أجل تحرير سبعة أطفال- تلاميذ من المعتقل، ثم اتسع الهدف التحرري ليشمل كل أطفال سوريا. ما على الثورة السورية سوى أن تحمي الأطفال بوصفهم أطفالاً لا أشبالاً أو طلائع على الطريقة البعثية. ما على المنتفضين سوى إبعاد الأطفال عن النزاعات العسكرية، حفاظاً على مستقبل سوريا، وأحلام ناسها وحريتهم وآفاق عيشهم في بلد لا استبداد فيه. الطفل في سوريا يصبح ثائراً حين يعيش حراً، لا عندما يتدرب في معسكرات الطلائع ولا عندما يتعسكر باسم الثورة..

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى