صفحات سورية

سوريا: عن الدولة والنظام وفكّ العرى/ ثائر ديب

 

 

(1)

في سوريا، ثمّة رواية واحدة عن الدولة وعلاقتها بالنظام يرويها طرفان، يزعم الواحد منهما أنَّه معارضُ الآخرِ ونقيضُه. والأنكى من ذلك بعد، أنَّ الرواية زائفة وغير صحيحة، مفادها أنَّ النظام القائم هو الدولة. وفي حين يبقى مفهوماً وطبيعياً أن يطابق النظام بينه وبين الدولة، ويزعم أنَّ كلَّ نقض له هو نقض للدولة، فإنَّ العجيب هو أن تزعم الشيء ذاته معارضةٌ يُنْتَظَر منها ومن كتبتها تقديم خطاب وممارسة هما النقيض لخطاب النظام وممارسته. هكذا، يجري الخلط لدى الطرفين بين شكل الحكم (أو النظام، أو السلطة) والدولة، ويغدو الشكل الدكتاتوري الفاسد الذي لا يعدو كونه شكلاً عابراً من أشكال الحكم هو الدولة الباقية المعمّرة. وهكذا، يرى النظام أنَّ مناهضته مناهضةٌ للدولة والأمّة، وترى معارضةٌ عجيبة أنَّ النظام لم يُبْقِ من الدولة شيئاً إلا امتصّه إليه، حتى بات النظام هو الدولة أو باتت الدولة هي النظام، وغدا دكّ أيّهما دكاً للآخر لا بدّ منه. وبذلك يغيب السؤال الضروري المتعلق بشكل الحكم وعلاقته بالدولة، وتغيب الرواية النقيض التي يفترَض بمعارضة فعلية أن تقدّمها، ومفادها الفصل بين التسلّط والدولة، مهما امتصّ الأول الثانية، بحيث تظهر عملية الاغتصاب التسلّطي أو التسلّط الاغتصابي التي استولى بها النظام على أجهزة الدولة ومرافقها ومؤسساتها، وتظهر ضرورة استعادة كلّ ذلك بفكّ هذا الارتباط التسلّطي من خلال تغيير شكل الحكم.

(2)

تبدو الدولة بالنسبة إلى السياسة أشبه باللغة بالنسبة إلى الثقافة، فهي ما يميّز الإنسان، في المجتمعات المتنازعة على الأقلّ، إلى حين زوال التنازع والصراع وما يتبعه من اضمحلال الدولة وأفولها إذا ما صحّ زعم الماركسيين عن إمكانية ذلك. وفي رأي الماركسيين أنفسهم أنَّ الدولة تجمع في آنٍ معاً، ومن دون انفصال، بين حماية المجتمع ككلّ وتأمين استمراره بالحيلولة دون إفناء الطبقات المتصارعة بعضها بعضاً بسبب مصالحها المتنافرة، وبين كونها دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصادياً بحيث تكون هذه الأخيرة سائدة سياسياً أيضاً. هكذا، تبدو الدولة قوة فوق المجتمع تقيّده بقوانينها وتحتكر ممارسة العنف فيه وتبقيه ضمن حدود ترسمها له، فلا ينفلت ليفترس بعضه بعضاً في حرب يخوضها الجميع ضد الجميع على حدّ تعبير توماس هوبز، كما تبدو في الوقت ذاته جهازاً للحكم الطبقيّ ولاستبداد طبقة بأخرى. ولنا أن نتوقّع، بحسب الظرف التاريخي ونوع الأطراف المتصارعة وتوازن القوى بينها وجملة من العوامل الأخرى الكثيرة، خلائط معقّدة شتّى من هاتين الوظيفتين المترابطتين أو هذين البعدين التكوينيين للدولة تختلف فيها نسب حضور كلّ وظيفة أو كلّ بعد.

(3)

حين انتفضت أقسام واسعة ومتعددة ومتعارضة من الشعب السوري وتعبيراته السياسية في العام 2011 سلمياً في البداية وجوبهت بقوة وعنف غير متناسبين، كانت الدولة تؤدي وظيفتها المنحازة طبقياً في المقام الأول. ودفع هذا العنف غير المتناسب، متضافراً مع سلوك وخطاب قطاعات وقوى معينة في الانتفاضة نفسها، إلى تحوّل الثقل الأساس في الانتفاضة باتجاه العنف والطائفية وطلب التدخّل الخارجي وتسيّد تيارات الإسلام السياسي وتابعيه الموجودين في أقسام واسعة من اليساريين والليبراليين السوريين. ولم يلبث تصاعد العنف غير المترافق بأي أفق سياسي من قبل النظام وتزايد سطوة حَمَلَة السلاح والميليشيات في الجهة المقابلة أن دفعا باتجاه حضور منفلت أشدّ الانفلات للإرهاب التكفيري متمثّلاً بقاعدة «النصرة» و «داعش» وتدخّلات خارجية لا يكاد يحصرها العدّ، إلى درجة مالت الكفّة فيها، بين بعديّ الدولة أو وظيفتيها، باتجاه الوظيفة الحامية للمجتمع من دون أن تتخلّى، بالطبع، عن وظيفتها القمعية الطبقية. بهذا المعنى نفهم كيف حادت الدفّة في ما يتعلّق بالجيش وملحقاته من كونه قوة قمعية صرفة تحمي مصالح معينة فئوية بأشد ما يكون القمع الوحشي إلى قوة تحمي البلد من الإرهاب ومموّليه، من دون أن يغيب الدور الأول، بالطبع. وبهذا المعنى نفهم أنّ القوى التي فرضت سلطتها في ما دُعي «المناطق المحرّرة» لم تُبْدِ ولو جنين دولة جديدة بقدر ما أبدت سطوة أمراء الحرب والميليشيات والإرهاب التكفيري، وسرّعت من عودة البشر الذين يُفترض بهم أن يكونوا شعباً واحداً إلى تكوينات عصبوية، قبلية وعشائرية وأقوامية وطائفية ومذهبية ومناطقية. وبهذا المعنى نفهم أيضاً أنّ الدور القمعي الذي يدفع إليه النظام أجهزة الدولة ليس مبرراً لتفكيك وتدمير هذه الأجهزة. ويكفي التذكير هنا بأنّ الجيش العراقي في ظل استبداد صدام حسين كان قد قمع شعبه وقصفه بالطائرات والسلاح الكيماوي، لكن أحداً ذا عقل لم يسعده لاحقاً تفكيك بريمر هذا الجيش، نظراً لما يعنيه ذلك من تغييب البعد الآخر للدولة بدلاً من إعادة هيكلة ذلك الجيش وإعادة رسم دوره ودور بقية أجهزة الدولة ومؤسساتها في إطار شكل جديد للحكم بعيد عن الاستبداد والدكتاتورية.

(4)

حين يغدو وجود الدولة ذاته مطروحاً على بساط البحث، لا يعود الشاغل الأساس شكل حكمها ونظامها، بل الحفاظ عليها، بوصفها الناظم للعلاقات داخل المجتمع ومع بقية المجتمعات والكيان الذي يُقاس حياله مدى حضور الحقوق والحريات ذاتها، وأولها حقّ الحياة والأمن. ومع ذلك، فإنّ الحالة السورية، في أصلها وفي تطوراتها الدراماتيكية، ربما تبدي نوعاً من التميّز الذي لعلّه يتمثّل في أنّ الحفاظ على مجرد وجود الدولة يقتضي، إلى جانب مواجهة الإرهاب وأمراء الحرب والتكفير، البدء أيضاً وفي الوقت ذاته بمسيرة فكّ ارتباط بين الاستبداد الفاسد والدولة من خلال عملية سياسية تنقل شكل الحكم من التسلّط إلى دولة المواطنة وسيادة القانون والديموقراطية، من دون إلحاق أذى بمؤسسات الدولة وهياكلها، بل بتعزيزها من خلال إعادة هيكلتها وجعلها في خدمة شكل الحكم الجديد. والمفارقة هنا أنّ الدولة التي تغوّلت، عبر نظامها، على المجتمع وكادت تحتله جميعاً وتخترق أخصّ خصوصياته، يكاد يودي بها تغوّلها ذاته الذي خلق الظرف الكامل المناسب لفعل قوى التفكيك الداخلية والخارجية، حتى باتت بحاجة إلى إنقاذها من تغوّلها هي نفسها.

(5)

يبقى لافتاً، من جهة أخرى، ذلك التهافت وتلك الخفّة التي تعاملت بها أقسام واسعة من المعارضة السورية «الليبرالية» و «اليسارية» ولا تزال مع مسألة الدولة وشكل الحكم والقوى الجديدة الهوياتية والنظام الدولي الحالي، بما تنطوي عليه هذه القوى وذلك النظام الدولي من طاقة تفكيك للدولة وتخريب للمجتمع ونسيجه. واللافت أكثر، مع شيء من السخرية المأساوية أو المأساة الساخرة، أنّ بعض هؤلاء الذين اطمأنوا لتيارات الإسلام السياسي وتحالفوا معها وكانوا خير مدافع عنها، كانوا أول من دفع غالياً ثمن هذه السذاجة البالغة اعتقالاً وخطفاً وتشريداً وتهميشاً وقتلاً، إنما باسم الثورة هذه المرّة وتحت راياتها. صحيحٌ أنه لا ينبغي الكفّ عن مناهضة أشكال الحكم التسلطية التي تبيّن أنّها لا تودي بأقسام معينة من المجتمع، فحسب بل بالمجتمع ذاته، لكنّ هذه المناهضة ليست مجرد كلام من جهة ولا مجرد إطلاق نار من جهة أخرى، بل عملية بالغة التعقيد والخطر من فك ارتباط الاستبداد بأجهزة الدولة بعد عقود وحشية من الصلة الرحمية الوثيقة. وأولئك الذين خدعهم تواتر الأحداث السريع في تونس ومصر، سرعان ما أثبتوا أنهم مهيئون للتهليل لقوى تفكيك الدولة، في الداخل والخارج، كما أثبت المثال الليبي وبعده المثال السوري، حين اندرجت قوى سورية معارضة كثيرة في «لَيْبَنَة» سوريا بالدعوة إلى العنف والسلاح وتغيير العلم وشقّ الجيش والتحالف مع أعتى رجعيات العالم والمنطقة. وها هم السوريون يكتشفون – بعد كوارث لا يحصرها العدّ ولا يطالها قياس، وبعد رجعة إلى الوراء قروناً على كلّ صعيد – أنّ المطلوب والممكن الآن هو ما كان مطلوباً وممكناً على الدوام من تغيير شكل الحكم وإعادة هيكلة الدولة في ضوء ذلك التغيير، وأنّ السبيل إلى ذلك هو، كما كان، سبيل المقاومة المدنية السلمية الصبورة والطويلة التي تحتمل الفشل وتتوقعه، ولا ترهن نفسها لقوى التفكيك الداخلية والخارجية بتبرير العنف أو الطائفية أو الارتهان الخارجي.

(6)

يبقى تراجيدياً وبالغ السوء، بصرف النظر عن طبيعة الأنظــمة التي لا تحتاج إلى شرح، أن تساهم «الثورات» أيضاً في دفع بلداننا إلى عواقب لا تكاد تختلف عن العواقب التي أسفر عنها الاحتلال الأميركي للعراق.

السفير

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى