سمير العيطةصفحات سورية

سوريا: فضائل الهدنة؟/ سمير العيطة

 

 

عاد الملفّ السوريّ للتحرّك من جديد على مسرح السياسة الدوليّة. هناك حراكٌ أًمميّ يبذل لتجميد الصراع في مناطق بعينها وحراك آخر لوضع أسسٍ جديدة لحلّ سياسيّ انتقاليّ على مستوى سوريا كبلدٍ واحد. إلاّ أنّ تجميد الصراع، أي الهدنة، والسلام المستدام، أي الحلّ السياسيّ الشامل، لا يعنيان الشيء ذاته.

لقد وصلت الأزمة السوريّة إلى درجة كبيرة من التعقيد، سواء من حيث تفكّك أواصر البلاد وتعدّد لاعبي حربها الداخليّة وآليّات عملهم وطموحاتهم، أو من حيث درجة انخراط القوى الإقليميّة والدوليّة في الصراع وتضارب مصالحها حتّى ضمن الأحلاف الواحدة، وكذلك من حيث أنّ الصراع بات دوليّاً على الأقلّ قصفاً من الجوّ على الأرض. وبالتالي غدا إيجاد حلّ سياسيّ شامل للأزمة السوريّة أمراً في غاية التعقيد هو الآخر. وأكثر تعقيداً بكثير ممّا كانت عليه الأمور عند عقد جولة التفاوض المدعوّة جنيف 2. واستجدّ واقع أنّ داعش والنصرة باتتا شبه دولٍ تسيطران على جزءٍ ملحوظ من الأرض وتتجهان نحو الاندماج. كما أنّ الصراع السوريّ بات جزءاً من الصراع في العراق ولبنان وله امتداداته الجارية في بلدانٍ أخرى.

الهدنة والسلام، كلاهما آليّة سياسيّة. الفرق أنّ الهدنة لا تُنهي الصراع، بل تجمّده إلى حين إيجاد حلٍّ نهائيّ. كلاهما يحتاجان إلى وسيط تثق الأطراف المتصارعة بمصداقيّته، وإلى قوى كبرى تضغط على الطرفين وتضمَن تنفيـذ ما يتـمّ الاتفـاق عليـه. وخيار العمل على الهدنة أوّلاً له شروطه: مساوئه ومزاياه، إذ على الأطراف المتصارعة أن ترى في الهدنة مصلحة لها، والاعتراف خاصّة بعدم إمكانيّة الحسم العسكريّ في الظروف الراهنة، وأن تضغط القاعدة الشعبيّة التي تنهكها الحرب على الأطراف المتنازعة. لكن في الوقت الذي قد تستجيب فيه الهدنة للمتطلّبات الأمنيّة للطرفين فإنّها تحمل في طيّاتها فرصة استراحة للمتقاتلين واستعادة للقوّة مع إمكانيّة أن يتفجّر الصراع بشكل أكبر وأوسع. بالمقابل، لا شكّ أنّ الهدنة تخـلق أملاً في تغيـير ظـروف الصراع، وفي عودة الحياة شبه الطبيعيّة وإمكانيّة العمل السياسي بين المواطنين لدى جمهور كلّ طرف من الأطراف المتصارعة كما بين جماهيرها، وبالتالي تخلق مناخاً أفضل لحلّ سياسيّ مستدام. هذا ليس فقط على الصعيد المحليّ، بل أيضاً على الصعيد الإقليميّ والدوليّ. كما تساهم الهدنة في عزل الصراع السوريّ عن الصراعات الإقليميّة الأخرى.

الهدنة قد تكون ضرورة أساسيّة في مرحلة ما من الأزمة. ذلك أنّ تطوّر الصراع واستمراره على مدى طويل قد يحدّان من الخيارات الممكنة للحلّ السياسيّ، وما قد يعيق إن لم يُلغِ قابـليّة إعـادة توحيد البلد يومـاً موحـدّاً، بحـيث يبقـى تقسـيمه هو الحـلّ الوحـيد الممكن في الأفق. كمـا أنّ الهـدنة قد تفتـح المـجال كـي تـغيّر الـدول الداعـمة للأطـراف مواقفها تدريجيّاً من دون أن تفقد دفعة واحدة ماء الوجه، ما يفتح المناخ الجديـد الذي تخلقه الهدنة أمام إمكانيات جديدة للتوافقات الإقليميّة والدوليّة.

الهدنة هي ضرورة إنسانيّة أساساً لتخفيف المعاناة عن بشرٍ يرزحون منذ أربع سنوات في خضم صراعٍ يمنع عنهم الغذاء والماء والكهرباء والصحّة والتعليم، وكلّ وسائل العيش، عدا عمّا يعانون منه من قصف وقتل وجرح وسجن واختطاف.

يتمحور الحلّ السياسيّ حول التوصّل، ولو من خلال مرحلة انتقاليّة، إلى نظام حكمٍ مستدام. وبالمقابل يتطلّب إرساء الهدنة «هندسة» سياسيّة تفصيليّة تتعلّق بالترتيبات الأمنيّة والإنسانيّة، تنبثق من نظرة بعيدة الأمد حول الحلّ السياسيّ الممكن. ذلك مثل تبنّي ترتيبات مؤسساتيّة تمكّن المجتمعات المحليّة من إدارة شؤونها وتضمن توافقاً على إدارة الموارد والخدمات والإغاثة، من ضمن استمراريّة مؤسسات الدولة واستقلاليّتها عن نظام الحكم. وبمقدار ما تكون تلك «الهندسة» دقيقة تكون كبيرة حظوظ تحوّل الهدنة إلى سلام.

لا بأس أن تتزامن الجهود من أجل الهدنة مع الجهود من أجل حلّ سياسيّ انتقالي، أي من أجل الوصول إلى منظومة للحكم. لكن تبقى الأولويّة هي لوقف الصراع العبثيّ.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى