بكر صدقيصفحات مميزة

سوريا في عزلتها القصوى: بكر صدقي

بكر صدقي

حولت الثورة الشعبية، في أحد مفاعيلها، سوريا من دولة تدخلية في محيطها الجغرافي إلى ساحة للصراعات الاقليمية والدولية، من المبكر التنبؤ بحصيلتها التي ستستقر على توازنات جديدة للقوى بعد السقوط المنتظر لنظام الأسد.

كانت سوريا، في الحقبة الأسدية الممتدة على أكثر من أربعة عقود، دولة إمبريالية تمتد أذرعها في جميع الدول المجاورة، بما يتيح لها اللعب مع الكبار، على قاعدة توازن علاقاتها القلقة مع السوفييت والأميركيين، وإيران والسعودية، وتركيا وإسرائيل. بيد أن الصفة الامبريالية لـ”سوريا الأسد” اختزلت في وجه أمني – “بلطجي” إذا جاز التعبير، ولم تتعداه إلى إمبريالية اقتصادية أو ثقافية إلا بصورة هزلية بائسة (اختزل النظام علاقاته الاقتصادية مع الدول الأخرى إلى وجه ريعي – ابتزازي، مقابل “علوَنَة ثقافية” متأخرة، في عهد بشار – مخلوف، اقتصرت مفاعيلها على الأغنية اللبنانية الموالية للأسد). هذا طبيعي في بلد بلا داخل وطني، تم إلغاء الحياة السياسية وكبت المجتمع والثقافة فيه، واختزل في حاكم فرد يفتقد، فوق ذلك، لكاريزما القائد الوطني برغم التماثيل التي نشرها في طول البلاد وعرضها بعد “انتصاره” الحاسم على المجتمع في حرب العام 1982.

منذ إخراج قواته الذليل من لبنان، في شهر نيسان 2005، بدأ انحدار الدور الإمبريالي الموصوف أعلاه للنظام نحو نهايته المحتومة. وإذا كان “الانتصار الإلهي” للحزب الإيراني في لبنان في 2006، قد منح النظام جرعة إنعاش قصيرة الأمد، فقد أجهزت ثورة الشعب السوري تماماً على دوره الامبريالي، فضلاً عن مقومات حكمه الداخلية.

غير أن المطابقة التي طالما أقامها الأسد بين نظامه والدولة – الوطن في خطابه الديماغوجي، تحققت فعلاً بمرور السنوات والعقود، ليس بمعنى الهيمنة الإيجابية على المجتمع في الداخل (الأمر الذي لم يتحقق أبداً، ثم تحقق جزئياً لدى قاعدته الاجتماعية الصلبة أثناء الثورة) بل بمعنى التعاطي الدولي معه. نعم، فقد اعتادت جميع الدول، على تباين مواقفها من النظام، على التعاطي مع ستاتيكو أبدي قائم على معادلة أن سوريا هي الأسد، والأسد يختزل سوريا في شخصه وحكمه. نلاحظ بعد مرور عامين ونيف على الثورة التي أضعفت النظام إلى درجة ما كان يمكن تصورها إلى ما قبل ثلاث سنوات، أنه حتى الدول المناصرة للثورة علناً، لم تتخلَّ بعد عن عاداتها القديمة. فبرغم إعلان أكثر من مئة دولة عبر العالم عن إسقاطها لشرعية النظام، لم نر إجراءات ملموسة تترتب على هذا الإعلان. ما زال تسليم مقعد سوريا في المؤسسات الدولية وسفاراتها في العواصم إلى المعارضة، على سبيل المثال، خاضعاً للجدل.

وما زالت دول فاعلة تحذر من “وقوع الأسلحة غير التقليدية في أيد خطأ” في حين أنها موجودة فعلاً في اليد الخطأ، وهو يقوم بقصف المدن السورية بالصواريخ البالستية والقنابل العنقودية المحرمة دولياً وصولاً إلى السلاح الكيماوي الذي استخدمه في عدد من المواقع، فضلاً عن استهدافه مواقع داخل الأراضي اللبنانية ووقوع بعض قذائفه “بالخطأ” فيما وراء حدوده مع إسرائيل وتركيا واشتباكاته المتواترة مع حرس الحدود الأردنيين.

لم يكن أحد يتوقع أن يواصل النظام، لأكثر من عامين، قتله للناس وتدميره لأسس البلد العمرانية والاجتماعية، ويبقى العالم متفرجاً فلا يعمل على تفعيل مبدأ التدخل الإنساني. لكن هذا ما حدث بالضبط. بعد مئة ألف قتيل وأعداد غير معروفة من الجرحى والمعاقين والأسرى وملايين اللاجئين والنازحين، تتجادل الدول الفاعلة فيما إذا كان النظام استخدم، في حربه المفتوحة على الشعب، السلاح الكيماوي أم لا. وحين يبلغ بها الحرج، أمام الأدلة الدامغة، حد الاعتراف بهذا الاستخدام، تتهرب مما يترتب على ذلك بفتح جدل جديد حول تسليح الثوار وجدواه وسويته الفتاكة أو غير الفتاكة.

أدت هذه اللامبالاة إلى ظهور مشاعر إحباط لدى السوريين بأنهم تركوا لمصيرهم أمام آلة قتل عمياء. بل أسوأ من ذلك، فحلفاء النظام يواصلون مده بأسباب البقاء، فيما خصومه المفترضون لا يحركون ساكناً أمام ذلك. فتحول رجاء السوريين بالتدخل لصالحهم، إلى رجائهم لوقف التدخل لصالح النظام. تتصاعد اليوم مشاعر العداء لدى السوريين الموجهة نحو الفريقين معاً، ومن المحتمل أنها لن تزول بسهولة بعد سقوط النظام. لا يمكننا أن نتوقع علاقات طبيعية بين سوريا الغد وروسيا أو إيران أو الصين. ومن المشكوك فيه أن تكون هناك علاقات ودية مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وينطبق الافتراض نفسه، بدرجات متفاوتة، على تركيا والدول العربية.

بالمقابل، ليس من المتوقع أن تهتم الدول الأخرى بسوريا ما بعد الأسد. فسوف تنكفئ هذه على نفسها لحقبة طويلة من الزمن، تضمد فيها جراحها وتعيد إعمار ما تدمر من مدنها وقراها ونسيجها الاجتماعي. لن يكون لديها الوقت ولا الحماسة للاهتمام بما يتجاوز حدودها. الاهتمام الدولي السابق بسوريا كان منصباً على دورها أو وظيفة نظامها الحاكم، وبنهاية هذا الدور سيخبو الاهتمام بها، فلا يتذكر أحد أين موقعها على الخرائط.

بيد أن هذا هو السيناريو المتفائل وحسب. ثمة سيناريو أكثر تشاؤماً هو ما يتوقع نشوب حروب أهلية مديدة ومتعددة المستويات بعد سقوط النظام، بين مختلف مكونات الطيف الوطني المتعدد، كما بين أمراء الحرب من قادة المجموعات المسلحة. هذا السيناريو الصومالي أو الأفغاني، يفترض تدخلاً أممياً للفصل بين المتحاربين وإنشاء حكومات مركزية ضعيفة تتنازعها الولاءات للقوى الدولية.

إلى أن تجد سوريا لنفسها تعريفاً جديداً أو تزول.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى