صفحات سورية

سوريا: قلقٌ مسيحي من الاضطرابات

 


سليمان يوسف يوسف

يعيش اليوم في سوريا أكثر من مليوني مسيحي يتحدرون من أصول عرقية وأثنية مختلفة،آشورية(سريانية/كلدانية)، ارمنية،عربية. يتوزعون على 12 مذهب كنسي.لم يتهاونوا في انجاز الاستقلال الوطني لسوريا.ساهموا بفعالية في بناء الدولة وازدهارها.رفضوا تأسيس أحزاب ومنظمات مسيحية خاصة بهم لأن لا حاجة لهم بها لطالما أجندتهم وطنية وتطلاعاتهم هي تطلعات كل السوريين.لهذا كانوا على الدوام المبادرين والسباقين الى تاسيس الحركات الوطنية والأحزاب الديمقراطية والليبرالية،قديمها وحديثها.يكاد اليوم لا يخلو حزباً سورياً، في السلطة والمعارضة،من وجود مسيحيين بين صفوفه.هذا الانفتاح عزز من الرصيد الوطني للمسيحيين السوريين،لكن من غير أن يمنحهم الدور المناسب والمستحق لهم في ادارة الشؤون السياسية والادارية للبلاد.فرغم الصبغة المدنية والعلمانية للدستور،خفض درجة مواطنيتهم وانتقص من حقوقهم في المواطنة الكاملة،وذلك باشتراطه “الاسلام” ديناً لرئيس الدولة و “الفقه الاسلامي” مصدر رئيسي للتشريع.هذه “اللامساواة الدينية” في الحكم،ومن ثم “اللامساواة السياسية” بانقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة واحتكاره لها، دفعت المسيحيين “للانكفاء السياسي” على الذات،وفرضت على الشارع المسيحي البقاء خارج دائرة النزاعات والتجاذبات السياسية التي شهدتها سوريا في مختلف المراحل وتلك التي تشهدها اليوم.طبعا،من الخطأ النظر الى مشاركة بعض النشطاء السياسيين والحقوقيين المسيحيين في الاحتجاجات الشعبية المناهضة للحكم القائم ولنظام البعث، التي تشهدها البلاد منذ شهرين، على أنها تعكس موقف المجتمع المسيحي من صراع على السلطة بدأت ملامحه تلوح في الأفق.هذه المشاركة المسيحية المحدودة والنوعية تأتي في اطار سعي القوى الوطنية للانتقال بسوريا الى دولة ديمقراطية “دولة مواطنة” تقوم على الحق والعدل والمساواة وسيادة القانون.في السياق ذاته يخطئ أهل الحكم اذا ما اعتبروا عدم استجابة الشارع المسيحي لدعوات التظاهر والاحتجاجات على أن المسيحيين يقفون الى جانب نظامهم القمعي الفاسد وبأن المسيحيين يرفضون مطالب الحراك الاحتجاجي الشعبي،والمتثلة بالحرية والديمقراطية والكرامة وتداول السلطة.

ثمة من يتساءل: هل يمكن للمسيحين البقاء حتى النهاية بمنأى عن التجاذبات والاصطفافات السياسية والغير سياسية التي بدأ يشهدها المجتمع السوري على هامش وبموزاة الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام؟وثمة من يتساءل أيضاً:هل الصمت حيال ما يجري في الشارع من احتجاج وقمع وقتل واعتقال تعسفي لمحتجين مسالمين،يصب في صالح المسيحيين ويخدم قضيتهم،خاصة وقد بدأت بعض الأصوات تتهمهم بالتخاذل والخيانة،والتهديد بالترحيل ما لم ينضموا لحركة الاحتجاجات؟.لا شك،من الصعب الاجابة على هكذا تساؤلات ثقيلة في ظل تعقيدات وتشعبات المشهد السوري المضطرب،وصعوبة التكهن بما سيتمخض من نتائج سياسية وغير سياسية عن الحراك الشعبي الاحتجاجي الذي يشهده الشارع.لكن في ضوء تطور مسار الأحداث، واصرار النظام على الحسم العسكري في اخماد حركة الاحتجاجات مهما كلف ذلك من أرواح ودماء ودموع،أعتقد بأن الأسابيع القليلة القادمة ستثبت بأن تحفظ المسيحيين على المشاركة في الاحتجاجات موقف يسجل لهم وليس عليهم، بصرف النظر عن مكاسب أو فوائد السلطة من هذا الخيار المسيحي.فمن خلال مقاربة موضوعية للراهن السوري، والغوص في عمق الحالة المجتمعية السورية الغير متماسكة والتي تعاني من نقص تاريخي كبير في الاندماج الوطني لأسباب بعضها يتعلق بالموروث الثقافي والاجتماعي وبعضها الآخر يتعلق بطبيعة الاستبداد القائم، سنتلمس الكثير من الأعذار والأسباب المقنعة لرفض المسيحيين المشاركة في احتجاجات ذات صبغة وتوجهات مذهبية اسلامية واضحة،تكاد المشاركة فيها حتى الآن تقتصر على الطائفة السنية.اذ،مازالت مشاركة المكونات السورية الأخرى(المسيحيون،العلويون،الاسماعليون،الدروز، الشركس،التركمان) محدودة جداً-عذراً عن استخدام هذه الوصفة الطائفية-. حتى الأكراد، رغم خصومتهم السياسية المعروفة مع النظام البعثي القائم وكسرهم لحاجز الخوف عندما انتفضوا عام 2004 ورغم حديث البعض عن “أجندة سياسية” كردية خاصة،مازالت مشاركتهم في الاحتجاجات محدودة جداً وخجولة وهي ليست بالحجم الذي يصوره ويضخمه بعض نشطاء وأعلاميي الأكراد لأغراض سياسية ودعائية معروفة.والى تاريخه لم تقرر “الحركة الكردية السورية” بفصائلها الأربعة عشر النزول الى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات.ومع تقديرنا العميق لدماء جميع شهداء وجرحى الانتفاضة السورية،لم ترتق هذه الانتفاضة بعد الى مرحلة الثورة الشعبية القادرة على حسم الأمور لصالح التغيير الديمقراطي السلمي، رغم مضي شهرين على انطلاق شرارتها، فضلاً عن تشتت الانتفاضة، من حيث التنظيم والشعارات والأهداف.

لا شك،أن عدم ادراج قوى الحراك الاحتجاجي على لائحة مطالبها، الغاء “المادة الثالثة” من الدستور (المتعلقة بدين رئيس الدولة والفقهة الاسلامي) زعزع ثقة المسيحيين بهذا الحراك.لأن بقاء هذه المادة الطائفية يلغي امكانية وفرص تحقق الدولة المدنية(دولة المواطنة الكاملة) التي يتطلع اليها المسيحيون والكثير من المسلمين.لكن العامل الأهم و الأخطر بالنسبة للمكون المسيحي،والذي جعله يحسم خياراته ومواقفه الرافضة للمشاركة في الاحتجاجات،ليس الخوف من بطش النظام بالمناهضين له وقمعه المفتوح ضد جميع معارضيه،وانما الخوف من أن تجر، هذه الاحتجاجات و الاضطرابات السياسية والأمنية التي تصحبها في الشارع، البلاد الى فوضى وفتنة طائفية وعرقية والى نزاع مسلح على السلطة يكون المسيحييون أبرز ضحايا هذا النزاع والفتنة الطائفية،بغض النظر عن الأطراف والجهات،داخلية كانت أم خارجية، التي ستلعب بالورقة الطائفية.فـ”الكابوس العراقي” مازل مثالاً حياً وقائماً أمام المسيحيين. وما زاد من احباط المسيحيين السوريين،النتائج الغير مشجعة لـ”الثورة المصرية” فيما يخص أوضاع وحقوق الأقباط المسيحيين.لا بل ثمة معطيات ووقائع على الأرض تؤكد على أن أوضاع الأقباط باتت أكثر سوءاً وتدهوراً ما بعد الثورة.يكفي الاشارة هنا الى قيام آلاف السلفيين قبل ايام بهجوم مسلح مبرمج على مصلين داخل كنيسة وحرقهم لأخرى في القاهرة، الأحداث التي تسببت بمقتل وجرح العشرات.

أخيراً: في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة التي تمر بها البلاد، من المهم جداً أن يتفهم مسلمو سوريا، مخاوف وهواجس أشقائهم المسيحيين المجمعين على أن مصيرهم مرهون،ليس ببقاء الاستبداد القائم ونظامه القمعي الفاسد،وانما بأمن واستقرار هذا الوطن التاريخي الذي اسمه”سوريا”،مهد الحضارة السريانية والديانة المسيحية،وتميز عبر تاريخه الطويل بالتسامح الديني والاجتماعي،وشكل عبر التاريخ “ملاذ آمن” للمسيحيين المشرقيين ولجميع المستضعفين،في أكثر مناطق العالم اضطراباً وتوتراً.

سوريا

باحث في قضايا الأقليات

ايلاف

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى