صفحات سورية

سوريا: ما يبوح به الصامتون

 

غراسيا بيطار

الجميع تقريباً في سوريا يرى بعين واحدة. قلة قليلة تتجرأ على النظر بعينيها الاثنتين. هذه القلة يمكن تسميتها بالشريحة الصامتة بين السلطة والمعارضة. تكاد تكون الوحيدة التي ترى مساوئ كل من الطرفين ومحاسنه، لتكون الفئة الأكثر إحباطاً في سوريا. فهي آمنت برذاذ الحرية الذي كان يمكن أن تحمله طلائع «الثورة» وليس مسارها اللاحق، لتجد نفسها اليوم أمام «أطلال نظام وأطلال حرية».

الصامتون في سوريا ليسوا من مؤيدي «شيطنة النظام». فهم يقرّون بما أرساه الأخير من خدمات على صعيد الصحة والتعليم والمساعدات الاجتماعية، ويرفضون نكران محاسن النظام طوال 40 سنة. لكن يبقى الجانب الأمني الذي لا يقوى هؤلاء على «بلعه»، من سيطرة الأجهزة الأمنية على كل شيء إلى تدخلها في شؤون المواطنين الحياتية وتفلتها من أي محاسبة.

يؤمن هؤلاء بأن «فتيل» درعا الذي أشعل الأزمة السورية كان يمكن أن يخنق في مهده «بفنجان قهوة» يشربه الرئيس السوري بشار الأسد مع فعاليات البلدة. لكنه على ما يرى هؤلاء، آثر التوجه في ما بعد إلى السويداء برفقة زوجته وأهمل درعا المصابة بلوثة ما يسمى «الطائفية الكاذبة».

عندما يتحدث النظام عن «المؤامرة» يرد الصامتون بأن «المؤامرة ضد سوريا قائمة منذ التاريخ، والنظام بسلوكه في الأزمة الراهنة فتح الأبواب للمؤامرة على مصراعيها». صحيح أن اليد الأمنية تقلص دورها في عهد الأسد، الذي لاحت معه ملامح دولة يسود فيها القانون، لكن الفساد استفحل.

يخاف الصامتون من المعارضة، التي يعتبرون أنها ارتكبت كل أخطاء النظام وفي مدة أقصر. يسمون ممارساتها «تشبيح المعارضة» عبر الاعتداء على كرامات الناس والعقاب على مجرد الشبهة والتعذيب والتفنن في العقاب والقتل من دون رحمة والفساد، فضلا عن السلوك الطائفي، حيث تتداول في أوساط الناس عبارة «أتمنى أن أعلق مع الدولة وليس مع المعارضة، فالقتل هو الحل الأخير لدى الدولة، لكنه الأول لدى المعارضة».

ما تعاني منه المعارضة في الداخل، كما في الخارج، أن شخصياتها يتبنون مطالب الشارع ويكررونها، لكنها عاجزة عن قيادة هذا الشارع، وإذا حاولت يتم إخراجها مثل حالة هيثم المناع الذي نبذ في درعا مسقط رأسه، ما إن اعتمد الخطاب العقلاني وأقلع عن مسايرة غرائز الشارع.

لم تنس الشريحة الصامتة أخطاء النظام، ولكنها تقرأ في الواقع الحالي «إعادة إنتاج ديكتاتورية أسوأ من السابق». برأيها، النظام لم يحسّن من سلوكه ليجعل الناس تقترب منه، ولا المعارضة قدمت البديل لكي ينحازوا إليها، وبالتالي تجد نفسها أسيرة من يملك القوة على الأرض. من جهة هي متهمة بأنها بوق للنظام ومن جهة أخرى هي تؤيد «الإرهابيين»، ولكنها في الواقع تدعو إلى الدولة العلمانية. وهي تخاف على هذه الدولة «الآن لأنها ستفقد كل شيء لقاء مجرد استبدال نظام بنظام آخر».

في بداية الأزمة، المعارضة دائما «جذابة». لم تقف فئة الصامتين حينها مع النظام الذي آمنت أن «40 سنة تكفيه»، لكن ممارسات المعارضة شلتها. وهي اليوم لا تستطيع العودة إلى السلطة، لأنها باتت تخاف من وجود السلاح بيد المعارضة. وفي كلتا الحالتين باتت مكبلة ومهمشة ومصابة بالإحباط وضحية تقاطع مصالح الآخرين على الأرض السورية.

وعليه، يبدو أن كل أهداف الآخرين، مثل قطر وإسرائيل وإيران وأميركا، تحققت في سوريا، إلا هدف الشعب السوري الذي كان يطالب بالقليل من الحرية، فإذ بمسار الأحداث جعله صفر اليدين من الدولة ومن أي حريات.

الأزمة برأي الصامتين والصارخين في سوريا طويلة جدا. فالهدف من تدمير الدولة السورية تحقق، بصرف النظر عمّن يحكمها. تلك الدولة، كما يرون، المرتكزة على جيش قوي وسياسة خارجية أقوى وشعب متماسك زالت بالكامل، ولا يقتصر الأمر على التصدع. فالجيش استنزف وتشوهت سمعته وشابته بعض الانشقاقات، وقسم كبير من سلاحه استهلك، ودمر الكثير من بناه التحتية، والشعب بات رهينة «القتل بيد والموبايل الشاهد باليد الأخرى» ما يربي في داخله أحقادا يصعب دفنها.

قد ينسحب المشهد السوري على ما يحصل في مصر. ففي القاهرة أصبح المواطن العادي يستسهل شتم الرئيس وهو سعيد بهذا الامتياز، لكنه قد ينظر إلى نفسه ليجد أن لا عمل لديه ولا طعام ولا لباس. يعتبر الصامتون أن الأمر يعود إلى «دونية ثقافة من قاموا بالاضطرابات في بدايات الأزمة وغياب قيادات في المعارضة». فالنظام اليوم، وبعدما كان يخجل من قتل 10 أشخاص خلال تظاهرة سلمية، قادته المعارضة المسلحة إلى تصفية المئات، من دون أن يرف له جفن.

هذا المشهد يكشف كذلك الفراغ في مؤسسة الرئاسة. فالوزراء هنا مجرد موظفين لدى الرئيس الذي هو ضحية تقارير تصله وليست بالضرورة صحيحة. المعضلة الأساسية تكمن في «حاشيته» التي تشمل رؤساء أجهزة أمنية لا صلة لهم بالأرض. ويكشف من جهة أخرى التخوف المتزايد لمنظمة الأمم المتحدة التي قد تضطر في النهاية إلى إقفال مبانيها في مختلف أنحاء سوريا، ولا سيما في العاصمة، والرحيل بجميع موظفيها. الأسبوع الماضي تلقت معلومات عن استهداف محتمل لمبناها في المزة وسط دمشق، وقد تعرضت مواكبها لإطلاق رصاص أكثر من مرة.

وتبدو مشكلة المنظمة الدولية مزدوجة مع طرفي النزاع، فمن جهة، الدولة تضيّق عليها أحيانا نشاطاتها فتفرض مثلا موافقة وزارتين على مرور قافلة مساعدات، ومن جهة تحط المعارضة عينها على سياراتها الرباعية الدفع المصفحة لأنها مفيدة لها في مهامها. وبين هذا وذاك أعلن أربعة من رؤساء منظمات الإغاثة مؤخرا الوصول إلى نقطة الكارثة في سوريا، ما قد يوجب الرحيل.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى