صفحات العالم

سوريا “محنة غير مألوفة”… والأسد يريد حلها بأساليب مألوفة جدا

 


حسين كركوش

في أول فقرة من خطابه الأخير الذي ألقاه يوم الاثنين 21/6/2011 اعترف الرئيس السوري بشار الأسد بأن سورية تواجه هذه الأيام وضعا استثنائيا، فقال: “نلتقي اليوم في لحظة فاصلة في تاريخ بلدنا… محنة غير مألوفة خيمت على بلدنا.» هذه بداية صحيحة، وهذا تشخيص واقعي للوضع السوري الراهن، لأن سوريا تواجه، فعلا، لحظة فاصلة في تاريخها. وأي مراقب كان يستمع للخطاب توقع أن يكرس الرئيس بقية خطابه لتقديم حلول، هي الأخرى، فاصلة، استثنائية، خلاقة، غير مألوفة، ومعاصرة جدا، لمعالجة هذه المحنة التي تواجهها سوريا عام 2011. لكن الشاب بشار الأسد بدى طوال خطابه، كأنه  الأسد الأب، عندما كان يتحدث عن مشاكل سورية قبل المحنة، أي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أو كأي حاكم عربي يتحدث قبل حدوث البركان البوعزيزي  الذي هز تونس، و بقية البراكين التي تعاقبت. في “هذه اللحظة الفاصلة” سوريا تحترق،  لكن بشار الأسد يتحدث (داخل قاعة غصت بمصفقين تم اختيارهم بعناية وأجلسوا على كراسيهم بانتظام) كما لو كان معلما يقدم درسا إنشائيا أمام تلاميذه الصغار (فصول المؤامرة تزهر عزة ومناعة)، أو، في أحسن الأحوال، مثل باحث أجنبي في السيسيولوجيا يحلل مشاكل سورية داخلية، ويصنف أنواع الغاضبين الذين يحتشدون في الشوارع السورية إلى ثلاثة أنواع  (أصحاب حاجة، وخارجون عن القانون، وأصحاب فكر متطرف)، أو كخبير في الإحصاء الإداري يقدم  أرقاما حفظها عن ظهر قلب (مثلا، عدد الأكراد الذي أشفق عليهم الرئيس فحصلوا أخيرا على الجنسية السورية).

يقينا، أن الرئيس السوري عندما أنهى خطابه  فأنه عاد لبيته أو لمقر الرئاسة مبتسم الثغر تماما كما لحظة ظهوره على المنصة، واثقا بأنه أجاب إجابة وافية شافية على السؤال الذي طرحه في بداية خطابه، وهو أخطر الأسئلة على الإطلاق، وأكد فيه بأنه:  “من البديهي أن يكون السؤال اليوم ما الذي يحصل (في سوريا) .. ولماذا ؟ ” ومن المؤكد، أيضا، أن الذين صفقوا له داخل القاعة، ومعهم، بل قبلهم قادة حزب البعث الذين أرسلوهم إلى هنا، وكبار قادة المؤسسة العسكرية والشرائح الاجتماعية العليا المتنفذة، والطبقات الطفيلية التي اغتنت طوال حقبة حكم البعث، كانوا على يقين، بأن الرئيس قدم إجابات وافية لمشاكل البلاد، ونجح في “منع الفتنة ووأدها في جحورها الكريهة” وأوقف “فصول المؤامرة والقتل.” وهذا كله (فحوى خطاب الرئيس، وتصفيق الحاضرين، وهتاف المؤيدين: الله وسوريا وبشار وبس) يعني أن البعث سيظل الحزب الأوحد الذي سيحكم سوريا، وأن التعددية الحزبية وحرية الصحافة والفصل بين السلطات والانتخابات البرلمانية الديمقراطية الحرة هي أمور ثانوية أو، في أحسن الأحوال، هي قضايا ضرورية، لكن الوقت لم يحن بعد لتطبيقها، وسيتم النظر فيها لاحقا. متى ؟  عندما تنتهي “فصول المؤامرة وتزهر عزة ومناعة.”

هذا بطر سياسي قد يتصف به  حاكم تعيش بلاده أوضاعا طبيعية هادئة، وهو استرخاء مفتعل في مواجهة نيران تشتد اندلاعا يوما بعد آخر، وهو استخفاف بعقول الناس الذين يسمعون ويشاهدون ويقرؤون ما تقدمه وسائل الإعلام الأجنبية عن بلادهم ساعة بساعة.

ثم، أي مؤامرات هذه التي يتحدثون عنها ؟ لا توجد مؤامرة، لا في سوريا ولا في اليمن ولا في الأردن ولا في تونس ولا في الجزائر ولا في المغرب ولا في ليبيا، ولا في مصر ولا في البحرين ولا في السعودية ولا في أي بلد عربي آخر.  “المؤامرة” الوحيدة، المؤامرة الحقيقية، المؤامرة الكبرى هي، أن الشعوب في العالم العربي استيقظت من سبات عميق وتريد أن تغير الأمور على هواها هي، بالطرق السلمية أن استطاعت وبالقوة أن أجبرت، وليس كما يريد الحكام.

الجملة/ الإكسير، الجملة الساحرة، التي حققت المعجزات والتي يتردد صداها في المدن العربية هذه الأيام هي، ” الشعب يريد…”، وليس الحكام، ولا السلالات العائلية، ولا النخب، ولا الجنرالات، ولا المؤسسات الدينية. البراكين لم تفجرها هذه الفئات (وكيف تفعل ؟ هل يخرب إنسان بيته ؟)، إنما فجرها موت بائع الخضار بوعزيزي، الخارج من القيعان الشعبية السحيقة، المنسية، المتعبة، المهانة، وربما ما كان يعرف حتى كتابة أسمه.

“الشعب يريد”، لكن الشعب ليس مجموعة من أصحاب حاجات يريدون قضائها، كما قال الرئيس السوري. والشعب لا يستجدي،  وهو لا يريد بناء جسر هنا وافتتاح مدرسة هناك، أو خفض سعر المازوت، أو أطلاق سراح سجناء رأي، أو الحصول على جواز سفر، أو السماح بتأليف حزب، أو ما شابهها من مطالب يومية.

“الشعب يريد” ليس مجرد شعار كلاسيكي آخر يضاف إلى الشعارات العديدة التي كان الناس يرفعونها في المدن العربية فيما مضى. هذا الشعار  إيذان ببزوغ (عصر) جديد، أو حقبة تاريخية جديدة هي، الحقبة البوعزيزية، أو حقبة “الشعب يريد”، لها سمة فريدة واحدة هي: الحكام في العالم العربي مواطنون عاديون، الرؤساء منهم تنصبهم الشعوب اليوم وتخلعهم غدا عن طريق صناديق الانتخابات، والملوك والأمراء منهم عليهم أن يحكموا بنظام ملكي دستوري يحترم حقوق الإنسان. وكل من يريد أن يحكم الشعوب عليه أن يعرف، من الآن فصاعدا، أنه لا يختلف عن أي مواطن آخر، لا شفيع ولا شفاعة غير كونه (مواطن) كبقية المواطنين. وكان آخر من لبى نداء شعبه، وأدخل هذه المادة ضمن تعديلات دستورية أخرى، هو العاهل المغربي، رغم أن البعض في المغرب يراها ناقصة.  وإذا ظلت هناك أنظمة في العالم العربي، جمهورية وملكية، تقاوم حتى الآن، أو لم تصلها حمم البراكين بعد، فليس لأنها في منجى، أبدا، كما يردد وعاظ هذه الأنظمة، ولكن لأن الظروف الداخلية لم تنضج بعد، والأمر مسألة وقت، ليس إلا، وهو وقت يعد بالأشهر وليس بالسنوات.

فهل يختلف النظام السوري عن بقية الأنظمة في بلدان العالم العربي ؟ قطعا، لا.

في الواقع، واقع سوريا الحزب الواحد، والصحيفة الواحدة، والرأي الواحد،  فأن النظام السوري  كان مرشحا أكثر من غيره لأن يكون قطعة الدومينو الثانية، بعد شقيقه البعثي في العراق، التي (تسقط) في حضن الديمقراطية. لكن الحسابات الدولية آنذاك (وهي حسابات أنانية ليس لها أي علاقة بمصلحة شعوبنا)، وكذلك التوازنات الإقليمية، وقبل هذه كلها،  غياب ثورة “الشعب يريد …” هي التي وقفت مانعا أمام سقوطه. وإلا، ما الفارق بين ورقة التوت التي كانت تستر عورة النظام البعثي العراقي وتلك التي يضعها شقيقه النظام البعثي السوري ؟

الآن، وقد (وقع فأس الشعب برأس النظام) فليس أمام الرئيس السوري سوى خيارين لا ثالث لهما: إما تلبية شعار “الشعب يريد”، أو الإمعان في تجاهل ما يريده الشعب،  وتكرار القول بأن سوريا تختلف عن بقية البلدان العربية، وأنها تتعرض لمؤامرة خارجية.  وطريق مثل هذا لا ينتهي إلا بالانتحار السياسي، وربما الجسدي، أيضا. إما إذا فكر الرئيس الأسد، بعد هذه الاصطفافات الجديدة والتغيرات الدراماتيكية التي تمر بها المنطقة والعالم، بالاعتماد على النظام الإسلامي في إيران لإطالة عمره، أو مقاومة حزب الله، أو تعقيدات الوضع اللبناني (لا نذكر منظمة حماس، والمنظمات الفلسطينية الأخرى، لأنها عرفت كيف تغادر السفينة السورية قبل الغرق) فأنه سيكون مثل أعمى يقود ضريرا، ولن يحصد غير الخيبة.

ومادام الرئيس السوري على يقين، كما قال في خطابه، بأن بلاده تمر في لحظة فاصلة، وتواجه محنة غير مألفوفة، فعليه أن يواجهها بحلول غير مألوفة. والخطوة الأولى الجبارة غير المألوفة والتي لا غنى عنها أبدا، في طريق تحقيق هذه الحلول هي، أن يقتنع الرئيس الأسد بأن نظام الحزب الواحد، بكل ما يعنيه هذا النظام ويتضمنه من فلسفة ورؤى وتطبيقات وأساليب، قد شاخ تماما وأنهكه المرض  بعد أن انتشر السرطان في كل مفاصل جسده، وبدلا من الإصرار على إبقاءه دخل غرفة العناية المركزة، على الرئيس الأسد أن يبادر و ينهي عذاب هذا النظام العليل الذي استحال شفاؤه، ويطلق عليه رصاصة الرحمة. عليه أن (يقتل الأب) ليتحرر تماما ويعلن فورا عن بناء الجمهورية السورية الثانية الديمقراطية. هذه هي (المؤامرة) الكبرى التي يتوجب على الأسد أن ينفذها، لينقذ بلاده من هذه المحنة، ويفي بوعد وزير خارجيته وليد المعلم الذي قال في مؤتمره الصحفي الأخير بأن سوريا ستصبح، بعد ثلاثة أشهر من الآن، “بلدا ديمقراطيا يحتذى به” في المنطقة، وكل ما خلا ذلك لن يكون سوى  شعارات فارغة لا تعمق المحنة الحالية فحسب، وإنما تخلق المزيد من المحن.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى