صفحات الناسفلورنس غزلان

سوريا من البارحة إلى اليوم

 

    فلورنس غزلان

    حولوها لجمهورية تمتلك ناصية الشارع ورقاب الشعب…جمهورية تورث وتتجاوز كل القوانين…هكذا فبركها العسكر الخارجين للتو من دفاتر الانقلابات …على رفاق الأمس وزملاء ” الثورة” …! ثورة تؤمن بحرق المراحل وحرق الكائنات..حرق الأرض وحرق العقول ثم شطفها بالماء القومي وبكحول المقاومة…القابلة للاشتعال بكبسة زر من يد الزعيم …حفيد اللامنتمي …إلا لجنسه المجهول وعائلته المصابة بزكام النقص والدونية بعد أن جالت في مصحات العروبة المؤمنة بقوة البندقية وسطوة العسكر بفرض قواميسه اللغوية الخاصة، وبمحاسبة كل من يخرج على معادلات صَنَّفها الزعيم… وعلى الموالين تمجيدها وحفظها عن ظهر قلب ككتاب مقدس أقانيمه الزعيم وابن الزعيم ..حفيد الزعيم وشقيق الزعيم ، عم الزعيم وخال الزعيم…أي الأسرة ذات الدم الأزرق المصاب بفيروس العطش للدماء النقية لتنتعش جذورها وتتمدد أغصانها ..فجذوع الشجرة القزمة لاتتطاول ولا تعرش إلا على ماء أحمر من شرايين الشعب الذي لن يغفر لنفسه ..خطيئته التاريخية…بتسليم رقبته لعائلة هولاكو التترية.

    كل الاحتمالات كانت ممكنة حتى الستينات من القرن المنصرم….أما حين جلس العَراب على سُدَة الحكم..أيقن أنها فرصته الوحيدة …لإعدام الحرمان ..إعدام النقص والدونية …التي أراد لها أن تتفوق وتنتصرعلى مخزونه من الضعف والهوان…استعان بكل قوادي المرحلة وشرهي الأنفس…لأنهم يشبهوه بالهدف الذاتي..ولا يعنيهم من الأوطان إلا انتفاخ الأوداج والبطون…وارتفاع بورصة أوراقهم في البنوك الغربية…أما تكاثر الجياع والأوبئة والموت…فهذا سيسجل في خانات القومية العربية وعلى حساب القضية الأولى …قضية فلسطين …التي حملت كل أوزار العرب وخساستهم منذ نكبة 1948…وحين ترتفع أصوات بعض المثقفين …ممن يحملون ضمائر وطنية…ممن لم يستطع النظام شراء ذممهم وأقلامهم..كانت لهم بالمرصاد تركيبة نظام أمني مرتبط بالحلقة الأعلى في العائلة، التي فرضت نفسها واستباحت الوطن ومارست كسلطة احتلال تعسفي كل الموبقات والوسائل الممنوعة …صارت مباحة في سبيل البقاء وحفظ النسل العائلي واستمرار الوطن كمزرعة وبقرة حلوب لزيادة المليارات في جيوب المنتمين لهذه العائلة والمنضوين تحت لوائها …من كافة المستويات والتكوينات الوطنية والطائفية…كي تكون الهيمنة مبرمجة ومتماسكة الخيوط وشبكة عنكبوتها قادرة على قتل كل حلم بحياة كريمة وبكرامة شعب لايريد سوى نيل حقوقه بحرية ولو نسبية…وحتى هذه النسبية …صودرت …لأنها تعني تنازلا …وأي تنازل يعني نهاية النظام…من أدرك منا منذ البداية نوع هذه التركيبة…فَهِم على أن ربيع الثورة إن طالها .. ونفذ إلى خلخلة تماسكها …لو استطاع التغلغل في إضعاف ثقة مواليها بها…لكنه يعرف حتمية أن صراعه مع هذا النظام …صراع وجود وحياة…أو موت محتم دون هذي الحياة.

    لاشك أن معول الثورة أسقط كل ورقات التوت منذ الأيام الأولى وعرى تبجح النظام…لاشك أن عالم الخوف وجدرانه الصماء المبنية بالاسمنت المسلح …استطاعت طبشورة أطفال درعا …أن تكسرها وتخرج الجموع والحشود المرعوبة عقوداً…إلى نور الحرية والانعتاق…مازالت حتى اللحظة ذكريات هذي الشهور العظيمة تهز كياني وكيان كل مواطن آمن بالحرية وبسلمية الثورة…لكن مكائد النظام ومصائده النفسية المدروسة إلى جانب جيوشه المعدة عسكريا واليكترونياً …وشعبوياً…وضعت موضع التهيب والانقضاض مُسَلحة بكل الأسلحة القادرة على الايقاع والفتك دون رادع خلقي أو حقوقي أو إنساني، وبدأ الحصاد التدميري ….للإنسان …للحجر …للبنى التحتية …لكل مايمكنه أن يستخدم وسيلة إرهاب وضغط وتطويع…غرق النظام ببحر عنفه وتعنته…معتقداً أنه وبمساندة وقحة مبنية على أحلام نفوذ في السيطرة على المنطقة واستخدام الدم السوري ورقة مساومة…سواء من قبل روسيا أو إيران..مع اختلاف الهدف والمصلحة…يمكنه أن يعيد عقارب الساعة إلى الخلف …أو على الأقل فرض شروط بقاء أتباعه على الأرض…دخلنا خندق العنف والعنف المضاد…وأصبح الزمن خادماً لكل مغامر ومرتعاً لكل صاحب أيديولوجيا أو حلم سياسي أو مذهبي…ولعبت الحاجة المادية والفاقة السياسية والفقر الفكري…دورها الهام في تردي الدور السياسي لمعارضة عاشت عقوداً من التهميش واللعب تحت الأرض دون نور الوضوح، ودون وضوح الطريق ومعالمه كخبرة ديمقراطية ممارسة على أرض الواقع…فسَهُل الصيد …وارتفع منسوب العرض والطلب …صار الوطن سوقاً رائجة لكل البضائع الكاسدة في العالم المخفي الثالث والمقموع والمحبوس في الصدور والعقول ، المكتوم في جدران الأقفاص الصدرية والنفسية والكتب العتيقة والتاريخ المنتهية صلاحيته..إذن طافت كل مجارير الصرف السياسي غير الصحية …فوق سطح الوطن…وبرز التناحر والتضارب…ومن خلاله استطاع النظام بين فينة وأخرى، أن يحقق تقدماً هنا ونصراً هناك…أما التدمير والتخريب فقد طال كل المدن مع استثناء نسبي بين هذه المنطقة وتلك…بالتأكيد كان القاتل الأول والمدمر الأساس هو النظام، لكن افتقار الثوار للتربية العسكرية الحقيقة والانتظام…والمركزية…إلى جانب تنوع الأهداف والانتماءات وتكاثر الكتائب ونموها على حساب الوطن أدى إلى ممارسات خاطئة وارتكاب خروقات تشبه وتعيد للأذهان مامارسه النظام على الوطن خلال مدة وجوده ..فما طُبِق باسم القومية والمقاومة والممانعة من قبل النظام ..يطبق في هذه المنطقة وتلك باسم الله ونبيه…فهل انتفضنا وأردنا الحرية لنستبدل استبداد أسري مقيت إلى استبداد مذهبي محدود أكثر مقتاً صورة ومعنى؟…كل هذا وطرف المعارضة السياسي يوماً بعد يوم بكل ماصدر من تشكيلات ومؤتمرات …منذ البداية حتى الآن …أثبت عجزا وضعفاً كلياً في الإدارة والحنكة والقدرة على استقطاب الناس والعسكر وتنظيمهم تحت لواء السياسة…لا أريد أن أدخل بتفاصيل أكثر …فأصبحت هذه التشكيلات بمثابة إعاقة وتوريط للثورة …ناهيك عن عمى العالم وتعمده لتناسي الموت السوري ووضع قضية شعبه على الرف…لأن مصالح الدول الكبرى وإسرائيل …تستفيد أكثر لو قتلنا بعضنا البعض وأنهينا على سوريا كقدرة جيش وشعب واقتصاد …ووطن موحد أثبت سكانه المتنوعين تعايشاً نموذجياً لايخدم مصالح …هذه الدول..شرقها كما غربها..

    هذه المصالح وبعد لأي وعار إنساني طال الأخلاق الأمريكة والأوربية…كما بدأ يلامس ويهدد مصالح روسيا في المنطقة، مما دفع الطرفين الأكبر إلى محاولة تقليص الإختلاف المُصطَنع وتقريب المسافة بين المصلحتين …فيُعطى لقيصر مالقيصر في منطقه نفوذه .. ويُعاهد ألا تلجأ أي دولة لدعم مَن سيخرج على طاعة قيصر روسيا الجديد ” بوتين ” ، والاعتراف له بمنافذه في البحار الدافئة …وفي تبادله التجاري والنووي مع إيران وغيرها….وكل هذا لن يشكل أي تهديد للولاية الأمريكية الستين ” إسرائيل”! ، لكن مصلحة كل الأطراف تقتضي ألا ينتصر طرف على الطرف الاخر، وبقدر مايحقق هذا الطرف توازناً وتواجداً قوياً يفرض شروطه على طاولة المفاوضات…لهذا نرى أن النظام يستشري ويتوحش ..في البيضا وبانياس ..والقصير …يريد أن يمنع بأي شكل من الأشكال امكانية النفاذ نحو البحر أمام الجيش الحر…وبكل أسف ..مراكز القوى في الجيش الحر مشرذمة…ويصب معظمها في ريف دمشق…تاركين المذابح تزيد وتتعمق وتصل لمستوى تصفية عرقية…يريد النظام من ورائها إظهار حربه كحرب طائفية على إرهاب سني …قادم من السلف الصالح …يساعده في هذه الخطة إعلام عربي يُدخل المنطقة برمتها في حرب طائفية…يمكنها أن تجرفنا لعقود طويلة وتدخلنا في نفق مظلم لم يعرفه تاريخنا سابقاً.

    ترتفع الأصوات بين مندد وقابل بشروط …أو صامت…وليس بين كل هذه الأصوات من حمل مبادرة قابلة للحياة على الأرض…أو فرضها الواقع ..ونرى امكانية تحقيقها وصوابها…لكنه خطاب سياسي يرتفع صوته حسب وقع المعارك وخفضها…لا حسب ميزان العقل وميزان إنقاذ الوطن ووقف حمام الدم بعد أن وصل رقم الضحايا لمئة ألف …وتدمير مايفوق الثلاثة مليون منزل…ومسح مدن كاملة من الخارطة…ناهيك عن تدمير البنى التحتية للدولة…فعلى ماذا ستبنون حلمكم …حلمنا…أما كفاكم مقايضة ومتاجرة ؟..إن كان الحل السياسي ممكناً …فباعتقادي أنه المنقذ الوحيد مما تبقى من الوطن…قبل أن نندم ويفوت الأوان…ولكم في القضية الفلسطينية خير مثال تاريخي ماثل للعيان…

    ــ باريس 12/5/2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى