صفحات سوريةطيب تيزيني

سوريا وأسئلة اللحظة/ د. طيب تيزيني

 

 

نعود اليوم إلى تاريخ منصرم وقع في 31 ديسمبر من عام 2011، حيث نشرت فيه مقالة بعنوان «سؤالان اثنان قد لا يحتملان وقد يحتملان من قبل نظام الاستبداد والفساد»، وكان ذلك في مدينة الرقة، والملفت الإيجابي جاء في ترك عنوان المحاضرة التي دعيت إليها، لي، فكان التالي:

«سوريا في عيون مثقفيها»، أما من حضر تلك المحاضرة فكان منهم بعض أهم المسؤولين في المدينة مثل: رئيس الأمن الوطني في المدينة، ورئيس الدائرة الثقافية، وأخيراً رئيس المرجعية الحزبية، وأعتقد أن محافظ المدينة كان موجوداً أيضاً في إطار رئاسة الدائرة الثقافية.

ومع التئام الجمع في قاعة المحاضرات، قدمت السؤال الأول، وهو الذي ظهر بالصيغة التالية: ما الذي أنجزه السيد الرئيس في الولاية الأولى؟ في حين ظهر السؤال الثاني على النحو التالي: ما هو برنامج السيد الرئيس للولاية الثانية؟ وما إن انتهيت من طرح مثل تلك الأسئلة حتى بدا أن المذكورين الثلاثة المشار إليهم -وقد جلسوا في الصف الأول- اتفقوا بالأعين على أمر ما اتضح حالاً أنه الخروج من قاعة المركز الثقافي، وذلك بحركة تستبطن احتجاجاً أو بعض احتجاج!

كان ما شاهده وأحس به الجمهور أمراً قد يختزل نصف قرن تقريباً من عمر سلطة راحت شيئاً فشيئاً تختزل الوطن والشعب، بحيث انتهى الأمر إلى أننا ربما تمكنا من ضبط القانونية العمومية، التي ضبطت المجتمع السوري على امتداد ما يقترب من نصف قرن. أما هذه الأخيرة فلعلها تكون ما وصفته بـ«قانون الاستبداد الرباعي»، أي الاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية، أي الإعلان بأن الحزب الحاكم هو مع رئيسه، الذي يقود الدولة والمجتمع، ومع ثم جاء الخروج من قاعة المحاضرات بمثابة استنكار للسؤالين المعنيين بمثابتهما تعدياً على حقوق الزعامة في ألا يعترض عليها: البقاء في الحكم إلى الأبد أولاً، والتصرف بكل شؤون الجمهورية دونما مساءلة أو اعتراض ثانياً! فكأنما نحن أمام نموذج تاريخي هو فرنسا قبل الثورة الفرنسية الكبرى، وذلك حين أعلن ملك فرنسا عملية التماهي بينه وبين القانون، فقال: أنا القانون، والقانون أنا، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام أكثر من حكم «جمهوري» وراثي، فلقد تحول الوطن إلى حالة فاقدة حتى للضوابط الدستورية والقانونية (المكتوبة والمقر بها).

وفي تلك الحالة الهائلة الدلالة، اتضح أن «الخارج» لم يبقَ صامتاً ودون حراك أمام «داخل منهك ومستباح»، ينادي أن تعالوا خذوني، مشيراً، بذلك، إلى المثل الشعبي الدقيق والحازم القائل إن: المال الدائر يعلم الناس السرقة!

أمام ذلك كله نجد أنفسنا أمام طرفة تقارب الكوميديا السوداء، وتتلخص في أن الحطام الذي أنتجه صناع الفساد المالي والاجتماعي والأخلاقي، يقدمه هؤلاء على أنه تعبير فاقع عن «مؤامرة خارجية من قبل الأعداء»! يسوقها أهل البلد المرتبطون بهؤلاء وبغيرهم، وذلك على نحو يفضي إلى وضع دعاة الحداثة والتعددية والتنوير تحت «قبضة الخيانة»! هكذا، تقلب المعايير والدلالات على عقب، لتقود إلى نتائج تكرس أعمالاً خارجية تقود هي بدورها إلى اللعب بالقيم الوطنية الداخلية، وبذلك يفقد المواطن والباحث القدرة على وضع الأمور في نصابها العلمي والسياسي.

وعلى العكس من ذلك تبدو الحلقة السليمة في الموقف هنا، ماثلة في الحفاظ على جدلية الداخل والخارج، دون تحويل هذه الأخيرة إلى التزامات فكرية وثقافية عامة وميكانيكية، وهذا يضعنا أمام المصداقية المعرفية والسياسية، بوصفها مدخلاً إلى المسألة و«ثابتاً» في البحث العلمي إضافة إلى النشاط السياسي والأخلاقي.

نحن نلجأ هنا إلى المرجعية العلمية الموضوعية، لنتمكن من ضبط ما أصبح مهدداً في معركة معقدة من أجل سوريا، وإلا فإن الأمر يبقى أسير مواقع لا يمكن التزحزح عنها، مؤدياً إلى ما قد يفضي إلى الإطاحة بالوطن السوري نفسه، وليس بالآراء التي نتمسك بها حوله فحسب. إنها، إذن، دعوة للتمسك بالحقيقة الواقعية، التي تتجلى على الأرض مفتوحة وبعيداً عن ثوابت دائمة، بل مطلقة.

هكذا إذن، فإن «الحقيقة السياسية المتحركة» تظهر أنها كذلك، بعيداً عن رغبات ومقولات وأحلام من يبحث عن الحقيقة إياها في الرؤوس وليس في الواقع التاريخي المتدفق بعجره وبجره، ولذا فإن على المتحاورين والمتصارعين، إذن، أن يضبطوا قواعد اللعبة، كما هي، وليس في دعوات وهمية تعقد الأمور، ولابد من القول بأن سوريا الجريحة تنتظر من يقدم لها حقوقها في الكرامة والحرية والتقدم، وذلك بالخروج أولاً من الكارثة غير المسبوقة والملطخة بالعار والدماء والدمار.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى