صفحات العالم

سوريا والإنهيار الكوني الكبير/ دلال البزري

 

 

“أسوأ سنة في تاريخ البشرية هي تلك التي كادت أن تتسبّب لها بالإنقراض: في العام 72 ألف قبل الميلاد، حصل إنفجار بركاني عملاق في جزيرة سومطرا، في أندونيسيا الحالية. كانت آثاره هائلة: الجبل الذي انطلق منه البركان تحول إلى بحيرة. قوة الإنفجار كانت تساوي مليون ونصف مرة قوة القنبلة النووية التي أُلقيت على هيروشيما. صخور الحِمَم عبَرت القارات. وطبقة من الرماد البركاني، تبلغ سماكتها خمسة عشر سينتيمترا، حلّقت فوق آسيا، وبلغ نفْنافها القارة الأفريقية. وفجأة إسودّت السماء وانخفضت الحرارة في الكرة الأرضية بأكملها. بعد ذلك، عرفت البشرية سنوات عديدة من “الليل الطويل”، نوع من الشتاء النووي. فنقصت الموارد الغذائية، ومعها عدد سكان الأرض إلى ثلاثة أو عشرة آلاف إنسان، كما تدل فحوص الـ”دي.أن.إي”. ومن هذه المجموعة الصغيرة الناجية، ينحدر السبعة مليار انسان الذين يقطنون الأرض اليوم”.

كنتُ أحار منذ فترة، كيف لي أن اصف الحرب في سوريا، أقلِّب الكلمات، أدفع بالخيال بعيداً، أقرِّب المسافات، أُبعدها عن بعضها… فلم أجد أفضل مما يقوله صاحب الفقرة أعلاه، المؤرخ البريطاني دايفيد بايكر جواباً على سؤال لموقع “سلات”، حول أسوأ السنوات التي عرفتها البشرية.

الحرب في سوريا تشبه الظواهر الطبيعية الخارقة، التي لا يتم السيطرة عليها، لا بالإرادة ولا بالمصالح ولا طبعا بالحوار… ولا بالقتال. لا قدرات المتحاربين العسكرية، ولا حساباتهم الجيوستراتيجية، ولا منافساتهم الإقليمية، ترجمت إرادتهم أو نفذت مشاريعهم أو أجندتهم. لذلك، عبثا يحاول العقلانيون أن يفسروا ويشرحوا وينقدوا…  بالعكس، بدل ان تأمن الثمانية وعشرين دولة المعنية بالحرب على الإرهاب، في الائتلاف الغربي، وبوجهها خصومها ومنافسيها الروس والإيرانيين… بدل ان تأمن جوانبها بتدخلها، ها هي منجذبة، مجنَّدة نحو المزيد من التعبئة والتجييش، المزيد من التعقيد، المزيد من التورّط في قلب البركان.

والنتيجة، أو السبب، أو الإثنان معاً: ان دولا بعينها تهتز تحت الضربات المتلاحقة والمتنوعة للإنفجار السوري. لبنان المسكين والمفلس الذي لم يأب غير المشاركة بميليشياته المنظمة والمتفرقة، ها هو يتنفس هواء الرماد الأقرب، أوكسجين الموت البطىء، منذ بداية الإنفجار السوري. كذلك تركيا، التي صارت سياستها الداخلية والخارجية مرهونة بالوتيرة السورية، بقضية الاكراد التي بعثتها من جديد. موسكو، التي أمنت خلفيتها في شبه جزيرة القرم واوكرانيا، وأعلنت عن خوفها من جهادييها، الذين يكادون يتسببون لها بما انتجته حربها ضد الشيشان… فزحفت ترسانتها العسكرية نحو سوريا، وغطست فيها… ايران، وقلقها على مجالها الحيوي السوري وتجنيدها قواها العسكرية الخاصة، الإيرانية منها، ولكن أيضا اللبنانية، العراقية، الأفغانية. دول الخليج، التي تخلّت عن حذرها وتحفظها، وباتت تخصص ميزانياتها للحرب في سوريا، أو لإنعكاساتها، وللإصطفافات الاقليمية والدولية الدائرة حولها… أوروبا، التي يهزها الإرهاب، والتي تكاد تحكمها في قريب عاجل أحزاب اليمين المتطرف، أو، في أفضل الحالات، أن تُصاب أحزابها الأخرى بعدوى الخطاب اليميني المتطرف؛ بسبب العمليات الارهابية، الآتية من سوريا، أو بوحي منها، وبسبب الهلع الذي خلقه هذا العدد الخرافي من اللاجئين، الهاربين إليها مشياً على الأقدام. قلنا ثمانية وعشرون دولة في الائتلاف الغربي، وأقل منها في خصمه المعلن. وعلينا تصور الجهد الحربي غير المرئي الذي تقوم به قوات تلك البلاد، ميزانياتها، جنودها، مناخها الداخلي… علينا مراقبة أنواع الأسلحة الجديدة التي تستخدمها ضد مجموعات مسلحة، إسلامية التوجه في غالبيتها؛ أو الأسلحة الواصلة الى هذه الأخيرة؛ وما يترتب على ذلك من أنواع لا تُحصى من القتل، منه الصامت السري المختبىء، الذي لا يطاله إعلام ولا شبكات تواصل، ومنه المسروق، الخاطف، أو الممسْرح، الفني، المتقن؛ فوق أنواع الخراب المترتبة على أنواع القتل، الحجر، ولكن بالدرجة الاولى البشر؛ ثم تمدّد الحمم في عمق التاريخ، فنبش الخلافة الإسلامية، والأمراء، وتطبيق الشريعة، وأسواق العبيد من النساء، وإبادة الأقليات، ومرج دابق، والوعود الصارمة باقتراب نهاية العالم، وظهور المهدييَن، الشيعي والسني، وتزويج القاصرات وجهاد النكاح، والقوافل المليونية من اللاجئين، في الداخل السوري، على أطرافه، بعيدا قليلا عنه، ثم أبعد فأبعد… ومواقف السوريين، المعقّدة، المركّبة؛ ومجموعات مسلحة معارضة، تتعملق بتفتتها وتشابكها وعداواتها وانقلاب أسمائها وتحالفاتها…

من أضيق زاوية نظر، إلى أعرضها، أشعر بأن الإنفجار الكوني السوري لم يُشبع وصفاً وإحاطة. من قصة مسار لاجىء أو لاجئة، وحتى حيثيات التعاون الأميركي الروسي، يحتاج المتابع إلى جهد خارق، وربما وقت، وعقول إضافية، ليكمّل بقية لوحة هذه النقطة من العالم التي صدّرت حِممها إلى بقية المعمورة. وحدها إسرائيل، المحاذية جغرافيا لهذا البركان لم تصلها الحمم الحارقة؛ ربما تصلها بعد حين، أو ربما تصلها وقد بردت. هي نفسها اسرائيل في حيرة من أمرها: هل هذا الذي يحصل حولها لن يطالها فعلاً؟ وبخلاف اسرائيل والعالم، أوباما، الذي يعتبر ان هذه السنة هي الافضل في تاريخ البشرية!

بشار الأسد حذّر في بداية الثورة عليه بأن مجريات الأمور في بلاده قد تفجِّر كل التوازن الاقليمي السابق. هو الذي ورث التوازن عن أبيه، على ظهر لبنان، لم يتصور يوما ان بلاده سوف تتحول، كما لبنان سابقا، الى “موضوع” لعبة دولية جهنمية، هو شريك فيها. كان ما زال عائشا على إرث أبيه، فلم يبتعد خياله عما هو عليه. ولكن الآن، بعدما أطاح الإنفجار بقراره “المستقل”، وبـ”سيادته الوطنية”، تحولت “نبوءته” الشريرة إلى لعبة محدودة الأفق… قوة الإنفجار تجاوزت خيال بشار الأسد الضيق، المستريح على إرث إقليمي بائد.

ويبقي السؤال: لماذا؟ ما الذي حوَّل سوريا الى بركان كوني، يهدِّد العالم بالإنهيار؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى