صفحات مميزةفاروق حجّي مصطفى

سوريا والسيناريوهات الروسية ـ الأميركية


فاروق حجي مصطفى

برغم ما حصل، ويحصل، في سوريا، لا يزال مجلس الأمن منقسما على نفسه، وما زالت روسيا والصين تقفان كالحائط في وجه إرادة الشعب السوري تحت حجج واهية، سواء أكان عبر استخدامهما لحق النقض (الفيتو) مرة تلو المرة، أم عبر التمسك بخطة أنان التي ما فتئت وعجزت عن جلب الأمان وإيقاف نزيف دم السوريين، والحق أنه إذا كانت مجزرة «الحولة»، التي أدهشت العالم وأججت مشاعر الإنسانية، وصارت عامل ضغط كبير على الحكومات الغربية من الرأي العام الغربي، لم تؤثر قيد أنملة (لا عاطفيا، ولا سياسيا) في الموقف الروسي فماذا يمكن أن يؤثر فيها؟! وماذا تطلب روسيا أكثر من الثورة السورية؟! أتحدث فظائع إنسانية أكثر وقعا وإدهاشا حتى تتراجع عن مواقفها الداعمة للنظام..؟! ترى، كم زلزالا إنسانيا آخر ينتظره السوريون حتى تقتنع روسيا بأن السوريين يعيشون في أزمة إنسانية وسياسية وأمنية وأنهم بحاجة إلى الخروج من هذه الأزمات المتفاقمة؟

لا يصدق أحد من مجتمع الثورة (السورية) بأن مواقف روسيا (ومواقف الدول الأخرى) منذ بدء الثورة وحتى الآن كانت نابعة من حرصها على مصلحة الشعب السوري أكثر من النظام، وانطلاقا من هنا، فإنه إذا وقفت روسيا في وجه إرادة الشريحة الواسعة من الشعب، إن لم نقل كلها، فكيف ستتخلى عن النظام ومصالحه بسهولة دون أن يقدم الأميركيون لها ضمانات بخصوص الدرع الصاروخية (مثلا) أو أن ترى المعارضة بأن روسيا هي من تمتلك «مفتاح» الحل في سوريا، وتاليا لها مصالحها في المنطقة، ومن الصعوبة بمكان أن تستهتر بنفوذها (في هذه المنطقة) التي حافظت عليها روسيا طيلة عقود خلت، رغم اهتزازات هائلة حدثت في المنطقة، وكذلك في جغرافية «الاتحاد السوفياتي» السابق، سواء تغير النظام أو بقي.

ومع أن ثمة أدوارا أخرى لروسيا في المنطقة ستلعبها بمعزل عن سقوط هذا النظام الذي ما زال يعمل بالروح البعثية، وهذه الأدوار سوف تكون رهينة ببقاء روسيا في المنطقة، إلا أن روسيا تبقى خائفة، مع أنه من غير الصحيح (100%) أن رحيل النظام السوري يعني تهجير ملامح الروس في المنطقة، ولعل للروس مصالح وتواجدا حيويا، فإن وجودها من بين الدول العظمى ودورها في الأمم المتحدة كصاحبة الفيتو، وكطرف دولي منخرط في العلاقة الإسرائيلية (سلما أو حربا) العربية، كفيل بالبقاء والحفاظ على النفوذ الروسي في المنطقة بشكل عام. وذلك فضلا عن روابط كثيرة يترتب على روسيا أن تقاتل للحفاظ على دورها ومحاولة أن تبقى في لب السياسة السورية، وهذه الروابط هي: وجود الأقلية الجركسية، وهذا الرابط له دلالة وانعكاسات كبيرة على ما يربط روسيا بالشيشان، ووجود الأقلية المسيحية، أضف إلى ذلك أنه ليس سهلا أن يسحب الروس أسطولهم من ميناء طرطوس…!

ولا نظن أن الروس لن يأخذوا بتطلعات مراجعهم الدينية والسياسية بعين الاعتبار في كل تحرك دبلوماسي أو سياسي، ونحن رأينا ماذا قال القس نيكولاي بالاشوف لصحيفة «نيويورك تايمز»، حيث نشرت الصحيفة تقريرا تحت عنوان «الكنيسة الروسية.. صوت قوي ضد التدخل في سوريا»، وتنقل عن القس نيكولاي بالاشوف (نائب رئيس قسم العلاقات الكنسية الخارجية في بطريركية موسكو) أن «الفوضى الدموية وحدها ستكون نتيجة للمحاولات قصيرة النظر لزرع نماذج سياسية من إطار حضاري مغاير في منطقة توراتية دون مراعاة النظرة العالمية والقيم التي شكلت حياة الناس فيها منذ قرون وآلاف السنين.. إن رسم السياسة الخارجية دون أخذ العامل الديني في الاعتبار يمكن أن يفضي إلى كارثة، وإلى موت آلاف وملايين».

والحال هذه…، وبحكم هذا الدور الروسي الذي أصبح أكثر حضورا وقوة لمدة أكثر من أربعة عقود، وترجم الروس هذا الدور عبر الاعتناء بمصالحهم في سوريا (حصرا) فإن تريثها لاتخاذ قرار لصالح المعارضة (أو الثورة) ضد النظام أمر يتفهمه الأميركيون والأوروبيون، عدا عن تباين في وجهات النظر (حول التدخل العسكري) بين الأوروبيون أنفسهم، وهذا ما لاحظناه من خلال وقوف ألمانيا الواضح مع الموقف الروسي، ودغدغة الإحساس السياسي الروسي، وما أن طفت بعض الحساسيات بين فرنسوا هولاند (الرئيس الفرنسي) وأنجيلا ميركل (مستشارة ألمانيا) حتى وقفت ألمانيا إلى جانب رؤية روسيا للحل في سوريا، وذلك نكاية بموقف فرنسا التي لم تبتعد عن التدخل العسكري، ولا نستغرب أنه حتى الكثير من الدول تريد أن تصفي حساباتها الدولية بين بعضها البعض على حساب الثورة السورية.

كل هذا يظهر على السطح معطى جديدا في الخطاب السياسي الدولي الجديد بخصوص الأزمة السورية، وبعيدا عما جرى بين باريس وموسكو حول وضع سوريا في لقاء بوتين مع هولاند قبل أيام، يحكى الآن عما صدر من معلومات صحافية ودبلوماسية بأن ثمة طبخة روسية أميركية تجهز لسوريا على نمط ما جرى في اليمن، والاتفاق بين الطرفين هو: «تغيير النظام، مع الإبقاء على أجهزة الدولة والجيش وتأمين استمرارية عملها منعا لسقوط ما تبقى من السلم الأهلي السوري في أتون حرب مدمرة للدولة والمجتمع السوريين»، وبدا أن روسيا صارت «عرابا» أكثر تأثيرا لسوريا الجديدة، لعل ما قاله بوتين من «أن روسيا لا تقف إلى جانب النظام» هو مؤشر على أنها، أي روسيا، ربما تتحضر لصفقة ما بشرط أن تحافظ على الحضور الروسي في سوريا الجديدة، وبدا أن الأميركيين وعددا آخر من «أصدقاء الشعب السوري» موافقون على ذلك، ولعل مرد ذلك هو الخوف من الانزلاق نتيجة تفاقم الأزمة السورية إلى ما لا تحمد عقباه، الأمر الذي سيخل بالتوازنات السياسية في المنطقة.

بطبيعة الحال، فإن كل ما يحدث هو مؤقت بالنسبة للثورات العربية، وهي وصلت إلى محطة لا يمكن الرجوع عنها، ولم تقف في حدود تغيير الأنظمة بقدر ما أنها تصنع زيا مغايرا للشرق الأوسط العربي، إن لم نقل الشرق الأوسط بشكل عام. فالحلول المؤقتة هي نوع من سياسة سليمة للحفاظ على التوازنات في المفهوم الدبلوماسي، وحماية مؤسسات الدول من الانهيار إلى حافة الهاوية.

خلاصة القول: في كل الأحوال، وإن لم تنجز الصفقة، على الطريقة اليمنية، فإن المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لن يقبلا الرفض الروسي الدائم إلى آخر المطاف، وروسيا أيضا بدأت تلين من مفرداتها الدبلوماسية، وبدت كأنها تستعمل خيار قوة الإقناع وليس الإقناع بالقوة، ولعل كلام بوتين الأخير، وهو إلى جانب هولاند والذي مفاده «إذا ما أزحنا عن السلطة الرئيس الحالي، هل تعتقدون أن السعادة المطلقة ستعم سوريا» يشير إلى التعامل السلس والدخول في سجال البحث عن الخيار: أيهما الأفضل!

ومن المنطقي أن يواجه الأميركيون والأوروبيون المؤثرون في القرار الدولي روسيا حينما يرى هذان الطرفان (الأميركيون والأوروبيون) ضررا في مصلحتهما من استمرار وقوف روسيا إلى جانب النظام، وتنتقل الأزمة إلى جوار سوريا بهوية الدم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى