صفحات العالم

سوريا والعراق: البحث عن السيادة المفقودة/ سلام السعدي

 

 

كشفت تداعيات الصفقة التي أبرمهما حزب الله اللبناني مع تنظيم الدولة الإسلامية، والقاضية بنقل مقاتلي التنظيم من الحـدود اللبنـانية – السـورية إلى الحـدود العراقية – السورية، عن حجم تضارب المصالح بين اللاعبين الإقليميين والدوليين والميليشيات المسلحة في سوريا. كما كشفت حجم التفتت والهشاشة اللذين استوطنا “الـدولة الوطنية” منـذرين بمستقبل مجهول لتلك الكيانات العربية المتشظية.

انتقد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في بيان رسمي صفقة إجلاء مقاتلي داعش باعتبارها تهدد أمن بلاده وتقوض جهود الدولة وميليشياتها في القضاء على تنظيم داعش في العراق. الولايات المتحدة لم تكتف بانتقاد الاتفاق، بل عملت على إعاقة تنفيذه وذلك عبر قطع الطريق البري الذي كان من المقرر أن تسلكه الحافلات التي تنقل مقاتلي داعش. عبر سلسلة ضربات جوية، دمرت الولايات المتحدة أجزاء من ذلك الطريق، كما دمرت جسرا بريا واستهدفت مقاتلي وعربات تنظيم داعش الخارجة من مدينة البوكمال في دير الزور لاستلام المقاتلين.

تبدو ردود الأفعال تلك غير مألوفة بالنسبة للبعض، خصوصا انتقاد الحكومة العراقية، الحليف الاستراتيجي لحزب الله والخاضعة، كما هو حال الحزب، للهيمنة الإيرانية، لتلك الصفقة. وتشير العديد من المصادر إلى علم الحكومة العراقية بالاتفاق قبل إعلانه، ما يعني أن حزب الله قرر المضي بالاتفاق رغم معارضة الحكومة العراقية وهو ما يزيد من الشكوك والتساؤلات. كما بدا السلوك الأميركي تدخلا غير متوقع وغير مألوف في مثل تلك الصفقات التي حصلت كثيرا مع تنظيم جبهة النصرة المصنف أيضا ضمن قوائم الإرهاب.

وأغلب الظن أن النظام السوري كان ليعارض مثل ذلك الاتفاق لو كان يتمتع بـ“السيادة” التامة على أراضيه وعلى قراره السياسي والأمني كما كان حاله قبل الثورة. فرغم الحديث عن أن الصفقة قد تمت برعايته، إلا أنها لا تخدم عملية عسكرية مقبلة يخطط لها النظام السوري من أجل انتزاع دير الزور من تنظيم الدولة الإسلامية واستعادة السيطرة على شرق البلاد. الحقيقة أن نظام بشار الأسد ورغم تماسك مؤسساته السياسية والأمنية في المدن التي يسيطر عليها، فإنه يخوض معاركه المختلفة بمساعدة لا يمكن استبعادها من الميليشيات الشيعية ومن إيران. إن مسألة استمرار النظام وتجاوز أزمته الوجودية لم تصبح ممكنة إلا بفضل ذلك الدعم.

ولكن، إذا كان النظام السوري قد رضخ لنقل مقاتلين يشكلون صداعا في رأس دولة أخرى، هي لبنان، إلى داخل دولته، بل وأشرف على نقلهم وأمّن لهم الحماية منحيا مبدأ “السيادة” جانبا، فإن الولايات المتحدة، وللمفارقة، لم توافق على ذلك، وتصرفت وكأنها صاحبة السيادة المطلقة في شمال سوريا، وعليه فإن أمن شرق البلاد بات جزءا لا يتجزأ من أمن المناطق التي تحظى بنفوذ عليها. هذا فضلا عن وجود خطط لا تزال قيد الدرس تخص دعما أميركيا لهجوم عسكري لاستعادة دير الزور وضمها إلى مناطق سيطرتها.

وتوضح ذلك درجة تشظي “السيادة” التي يدعي النظام السوري بأنه يتمتع بها ويدمر البلاد ويسحق السوريين لأجلها، فيما يبرر كل من حزب الله وإيران وروسيا التدخل العسكري باسم الدفاع عنها. لقد تم إجبار النظام السوري على الموافقة على اتفاق ينتهك سيادته، لتقوم الولايات المتحدة بمنع تنفيذ ذلك الاتفاق، في انتهاك مزدوج للسيادة السورية المزعومة، وإظهار لتعدد السيادات في بلد لا يزال من الناحية النظرية موحدا.

كما يظهر ما يحصل حجم تضارب المصالح بين الأطراف المتصارعة وحتى المتحالفة منها. في وقت سابق من العام الماضي عندما بدأت معركة الموصل، حذر حسن نصرالله ومعه نظام الأسد من أن خطة أميركية تقضي بفتح ممر لمقاتلي داعش للدخول إلى مناطق النظام وحزب الله في سوريا هربا من الموصل. وطالب العراقيين المتحمسين لمعركة الموصل آنذاك برفض ذلك “الخداع الأميركي”.

يأمل النظام السوري بالتخلص من داعش بأقرب وقت، وخصوصا بعد إعادة تأهيله دوليا وقبول بقائه في السلطة بمعزل عن الإبادة المستمرة للسوريين. كما يعمل حيدر العبادي على إنهاء وجود داعش بسرعة من أجل الالتفات إلى دولة متشظية ومتعددة السلطات رغم تماسك حدودها حتى الآن. يتشارك العبادي مع النظام السوري في البحث عن السيادة الوطنية بعد التشظي الاجتماعي والسياسي والجغرافي، وبعد اشتداد قوة الميليشيات العسكرية والأطراف السياسية، وبينها الأكراد الذين يستعدون لاستفتاء الانفصال، وتمتعهم بموارد اقتصادية ودعم سياسي وعسكري مستقلين. على أن السيادة لكليهما تعني السيطرة المطلقة لطغمة حاكمة سواء كانت عائلة كما في سوريا، أو تحالفا طائفيا كما في العراق.

ولكن التخلص من داعش لا يعني بالضرورة إعادة خلق دولة وطنية تتمتع بالسيادة المطلقة كما يأمل العبادي والأسد. إذ تنتشر في البلدين عشرات المجموعات المسلحة التي تجند مقاتلين بعشرات الآلاف أو مئات الآلاف. فيما تزداد قوة ونفوذ وسيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شمال البلاد وتتجه لتشبه الجيش أكثر من الميليشيا، سواء في شكل سيطرتها أو في الدعم الذي تحظى به وحجم المقاتلين المنضوين في صفوفها، والأهم في امتلاكها مشروعا سياسيا، وهو ما يجعل تفكيكها أمرا عسيرا جدا.

وفضلا عن ذلك، تحظى كل من أميركا وتركيا وإيران وروسيا بمناطق نفوذ داخل البلاد وبمشاريع ترتبط بأمن كل منها وبمصالحها متوسطة وطويلة الأمد في سوريا والعراق. أكثر ما تخشاه الطغمتان الحاكمتان في كلا البلدين، وفي سوريا على نحو خاص، هو أن تقنن التسويات السياسية التي يجري رسمها والدساتير الجديدة المنتظر كتابتها ذلك التشظي، فتفقد الدولة الوطنية سيادتها إلى الأبد، فتصير صورة عن لبنان، فيما يصير الآخرون صورة عن حزب الله.

كاتب فلسطيني سوري

العرب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى