رستم محمودصفحات سورية

سوريا… والمداولة الكبرى


رستم محمود

ليس بشكل استثنائي، لكن في الجذر، ثمة معضلة تكوينية تخص تأسيس الكيان السوري. فالصيغة والمناخ اللذان رافقا التأسيس الأول، خضعا بدرجة كبرى لجملة معطيات العلاقات والتوازنات الدولية بعيد الحرب العالمية الأولى، بما لا يقارن بما يوازيها من التفاعلات والخيارات البينية في المجتمع السوري. طبعا ثمة شيء مشابه لذلك في يخص جل الكيانات الحديثة التي تأسست على أنقاض الولايات العثمانية، وبدرجات متفاوتة. وهي عموما، كانت قضية عالمية مركزية عامة، فكل الدول كيانات مصطنعة بدرجات متفاوتة، تلك الدرجة التي تتعلق بمدى تطابق خيارات وحدود الكيان “المصطنع” مع رغبات وخيارات مجتمعاته الداخلية. حتى أن فرنسا التي تأسس كيانها المركزي، منذ أواسط القرن الخامس عشر زمن لويس الرابع عشر، فأن الكثير من الكتاب والباحثين الفرنسيين يعتبرونها كيانا مصطنعا للغاية، “اختراع فرنسا” حسب المؤرخ الشهير أمانويل تود.

تعمقت “الاشكالية الاصطناعية” في المراحل التي تلت المرحلة التأسيسية في التاريخ السياسي السوري الحديث. ففي أغلب الكيانات، وبشكل تقليدي، كانت المجتمعات الثقافية والأهلية المكونة لأي كيان حديث، تبدأ مرحلة التعارف والتآلف مع بعضها البعض. لتعمق معرفتها وفهمها المتبادل، ولتؤسس لذاكرة وطنية سياسية وثقافية واجتماعية ومشهدية…الخ. حيث كانت تلك الذاكرات والهويات الوطنية المشتركة بين البنى الأهلية الأولية، تتكون عبر مسيرتين مترادفتين. صوغ “النضال” المشترك الذي يخوضه جل المواطنين، في سبيل مصالحهم المشتركة. عبر نشاط النقابات وهيئات الدفاع عن الحريات العامة وشركات التنمية الاقتصادية والجمعيات المدنية والعمل السياسي والتصارع الفكري والثقافي والاجتماعي، في السينما والمسرح والإعلام وصناعة الرأي العام…الخ. ومن جهة أخرى، عبر صوغ مجموع مؤسسات الدولة التربوية والقضائية والدفاعية والاعلامية والحكومية، التي يجب أن تسعى لصناعة وتطبيق قوانين عمومية على اساس المواطنة، بحيث يتراجع دور البنى الأهلية في آليتي “الحق” و”الواجب” التي يفرضها جهاز الدولة العمومي، والذي يسعى لتحقيق أكبر قدر من العدالة والمساواة في كافة السياقات، وتشكل تقاربا وتآلفا بين تلك القوى الأهلية المؤسسة لكيان الدولة.

ما جرى في سوريا منذ التأسيس الأول عام 1920، وحتى راهن الثورة الآن، كان تقريبًا عكس ذلك بالكامل. فخلا سنوات الديموقراطية اليتيمة التي امتدت بين عامي 1954-1958 كانت “الدولة” السورية تعمل بوعي تاريخي تام، لتعميق الشقاق فيما بين البنى الأهلية السورية، وبين تلك البنى والدولة نفسها. إي أنها كانت تزيد من غرابة السوريين عن بعضهم البعض وتضعف شعور المواطنة فيما بينهم، وتعمق من شكوكهم حول بداهة الكيان السوري. فتعظم من شك السوريين من منجزية كيانهم الدولتي. فطوال فترة وجود الكيان السوري، وبدرجات وأشكال متفاوتة، وبالذات في أزمان البعث، ومنها بالتحديد زمن الأسدين الأب والأبن، كانت السلطات الحاكمة قد ابتلعت الدولة، فلم تلعب المؤسسات دورها الذي ذكرناه سابقا. كما انها أججت الصراعات الأهلية وتوازناتها، كأداة لضبط وإخضاع المجتمع، فتعمقت غربة السوريين عن بعضهم البعض، وكذلك هواجسهم المتبادلة.

ثمة مثال على شكل سؤال يخص المناهج التربوية، ربما يكون بالغ الدلالة على هذه الحالة في اللحظة السورية الراهنة، حيث تعتبر المناهج التربوية، المركزية والموحدة، عاملاً مؤسسًا لذاكرة السوريين. من تلك المناهج التربوية يُسأل : ماذا يعرف السوريون عن شكري القوتلي ؟! لا شيء أبدا، بالتمام والكمال. ففي كتب التاريخ وطوال مراحل الدراسة العامة، وفي كتب “التربية” القومية، لا يردُ أي ذكر لإسم “شكري القوتلي”. ذلك الرجل الذي قاد كفاح السوريين لتحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، وشكل فيما بعد حزبا سياسيا ليبراليا رائدا على مستوى الدولة السورية، ووصل لرئاسة الدولة اكثر من مرة، وتبرع بقسم كبير من ممتلكاته الشخصية لصالح الثورات السورية كلها، وتخلى بكل رضا عن منصبه في رئاسة الجمهورية لصالح حلم الوحدة ومصالح سوريا الكبرى (تصور يا رعاك الله). عن ذلك الرجل، لا شيء أبدا في منبع ذاكرة السوريين التأسيسية المناهج التربوية – وبالذات في ذاكرة الأجيال التي ترعرعت في زمن البعث. إذ كيف لأجيال سوريا كثيرة أن تعمق وعيها بفكرة القانون والدولة والدستور والمساواة…الخ من دون أن يكون لديها أي اطلاع على شخصية تمثيلية لهذه القيم في تاريخهم الحديث مثل شكري القوتلي ؟؟

توسيعا لتلك الملاحظة، وعلى المقلب نفسه، يمكننا السؤال : أي شيء يعرفه السوريون عن الطائفة العلوية، أقصد عن المذهب نفسه، عن رؤيته الروحية وفضائه الأخلاقي، عن تشريعاته وآدابه وشخصياته التاريخية، عن طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية لأتباعه. لا شيء من كل ذلك في المناهج التربوية السورية طوال سنوات الدراسة، وكذلك لا شيء من ذلك في الكلام السوري العام، بدعوى “صدّ” الطائفية. على مستوى أكثر قسوة، ماذا يعرف العلويون أنفسهم عن مذهبهم وعوالمه، بعدما تم أعادة تأسيس كل طبقة رجال الدين في تلك الطائفة، منذ زمن الأسد الأب. والسؤال نفسه عن الطائفية العلوية، يمكن طرحه فيما يخص كافة المذاهب الأخرى من خزان الهويات الثقافية السورية، بما فيها الأشكال غير الرسمية لتفاصيل المذهب السني. والأمر الذي ينطبق على المذاهب والأديان السورية، ينطبق على القوميات التأسيسية في سوريا وثقافتها ولغتها وفضائها. ويكبر السؤال نفسه، ليشمل جل معرفة السوريين ببعضهم البعض، بعيدا عن سماجة الخطاب الرسمي المتحدث عن الوحدة الوطنية والتآلف..الخ.

مثل جهلهم بقامة مثل شكري القوتلي، ومثل مخيلاتهم أو أوهامهم المتبادلة عن ثقافاتهم الأهلية البينية. تشكل كل وعي السوريين ببعضهم البعض، وعن الدولة ووظائفها. فالحساسية المواطنية والهوية الوطنية السورية المشتركة حتى قبيل الثورة الراهنة يمكن اختصارها بعبارتي الجهل والخشية المتبادلتين. هذا ما يجب أن يعيه السوريون عن لحظتهم التاريخية هذه، ليعوا أسباب تشنجهم وغضبهم وعنفهم اللفظي وميلهم للأحكام القاطعة والنهائية عن بعضهم البعض. فالاعتراف بحقيقتي الجهل والخشية المتبادلة بين السوريين من جهة، والجهد لبناء مؤسسات الدولة العمومية من طرف آخر، قد يساعد على تكوين مداولة سورية عمومية تؤسس لمحو الاغتراب السوري المتبادل.

خلال السنوات العشر الأخيرة، كان السجناء السياسيون السوريون الأكثر معرفة ووعيا ببعضهم البعض، فقد كان حيز السجن الضيق قد منحهم جغرافيا مناسبة للتداول فيما بينهم. كما ان طبيعة السجن نفسها، قد كسرت في وعيهم التقية المتبادلة وسمحت لهم ببناء جملة من القوانين والاعراف العمومية المتبادلة. كان السجن السوري المكان الوحيد الذي سمح ببناء مداولة وطنية، ولو بالغة الصغر. ربما لأنها كانت المكان الوحيد المحمي من وحش كان يسمى “السلطة”. آن للسوريين أن يكبّروا مداولة السجن الصغرى تلك، إلى مداولة كبرى، لسبب بسيط، هو أن يبنوا وطناً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى