سوسن جميل حسنصفحات الرأي

سوريا والهويات الباترة/ سوسن جميل حسن

^يتعرض فتيان سوريا إلى تقسيم تربوي و”تعليمي”، فما يدرس في مناطق تعود لـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام” و”جبهة النصرة” نقيض ما يدرس في مناطق النظام.

“وزّع النهر سواقي وشوف شو بتلاقي”.

هذا المثل الشعبي الدارج يحمل مثل كل ما تنتجه الشعوب من موروث ثقافي شعبي يتدخل في صياغة الوعي والقيم والأعراف المجتمعية، وهو يدل على الفقر والضحالة اللذين يحملهما التقسيم والتوزيع. أما بالنسبة للأوطان وتشكلها فليست الحدود الجغرافية هي البداية دائماً. هناك بدايات أخرى قد تكون أشد فتكاً وأكثر قدرة على إحداث الضعف والفقر والخلخلة والتراجع عن مواكبة الحياة، وكل الحدود في المحصلة تقف وراءها نوايا سياسية بدوافع مختلفة تجمع بينها شهوة السلطة والامتلاك والتحكم.

بعد «سايكس ـ بيكو» رسمت حدود منطقتنا ونحن نئن تحت عبء وجراحات قرون من الاستعمار الذي لم يغادرنا حتى أفرغ أحشاءه المريضة في أرضنا، فورثنا تبعيات أخرى، ليس آخرها التقسيم الذي خلف كيانات مبتورة عن كيان أصل، راحت شعوبها خلال الزمن تتمثل فكرة التقسيم وتكتسب هويات جديدة تؤصّل للانتماء بأشكال ومستويات تتدنى حتى تصل إلى حدود الإعاقة وتصير عقبات في طريق سعي الشعوب نحو مستقبل يضمن لها حياة إنسانية، ولا أقصد بالهويات هنا البطاقات الشخصية، والتي أثير اللغط والشكوك حول نية الحكومة السورية استبدالها في وقت يعاني فيه الوطن وأبناؤه من حرب شرسة لم توفر بنية ولا بنياناً إلا ودمرته أو تسعى إلى تدميره، ودفعت بالملايين من السوريين إلى ترك أماكن إقامتهم والنزوح أو اللجوء، لكنني أقصد الهوية كحالة ثقافية جامعة لمجموعة من الناس يعيشون حياة مشتركة فوق بقعة من الأرض.

اقتربت الحالة السورية من إنهاء السنوات الثلاث من عمرها، أما العمر المقدر لها فلا أحد يستطيع تحديده، ربما تطول لسنوات من دون أن يقف شلال الدم وهدير العنف، إذ لا تلوح في الأفق المنظور إمكانية للحل القريب، وحتى لو وضعت أسس لهذا الحل قريباً، فإن ترجمتها إلى فعل، والشروع في البناء، يلزمه وقت طويل يمر بمراحل صعبة، ليس أقلها فرز الركام من أجل إعادة البناء.

هذا العمر غير المنظور سيكون بالمقابل عمراً لجيل سوري ولد مع الثورة، أو كان في الطفولة الأولى، المرحلة التي يبدأ فيها الفرد بإدراك انفصال العالم عنه وتشكيل رموز وعيه، وهي المرحلة الأهم لأنها تشكل الأرض البكر للزراعة المستقبلية، فالمعلومات والمعارف التي يحصل عليها الطفل هي التي ستؤسس لتفكيره وتشكيل منظومة معارفه وابتداع حياته مستقبلاً.

وفي سوريا ينشأ هؤلاء الأطفال “السوريون” كما هم مسجلون في دوائر الأحوال الشخصية وفي الأوراق الثبوتية وسجلات القيد والهويات ودفاتر العائلة وغيرها، ينشأون اليوم في بيئات ثقافية متباينة ومختلفة حدّ التصادم، بحسب الجهة السياسية التي تسيطر على مقاليد الحكم وتدير شؤون الناس فيها، إن كانت مناطق “محررة” أو مناطق “مطهرة” كما يجري توصيف هذه المناطق سياسياً، فابتداء من المناهج التعليمية تبدأ المفارقة لأن تلميذ المناطق التي تحت سيطرة النظام يتلقى مسلمات وبديهيات مختلفة عن التلميذ في المناطق التي تسيطر عليها جماعات إسلامية أو تلك التي تحكمها دولة العراق والشام الإسلامية “داعش”. كل جهة تمتلك خطاباً هوياتياً منغلقاً تؤسس، مرتكزة عليه، وضعاً مجتمعياً منظماً وفق قواعدها وقوانينها وتشريعاتها، حتى إنها تلجأ إلى القوة والبطش في فرض نظام سلوكي مجتمعي يدخل خلال الزمن في العادات التلقائية القطيعية لأفراد المجموعة المحكومة.

لم يعد خافياً ما تقوم به الجهات الإدارية والمحاكم الشرعية وفتاوى المتنفذين في دولة «داعش» على أفراد المجتمع في مناطق نفوذها من فرض زي معين من اللباس وتقييد حريات الأفراد بدعوى تطبيق الشريعة، وتكريس المكانة الدونية للمرأة وجعلها سلعة تباع من دون الاكتراث بهويتها الإنسانية، كذلك تحريم بعض النشاطات والمهن الاجتماعية وجعل المجتمع ينغلق على نفسه ليعيش في محيط زمني تمت استعارته من ماضٍ بعيد بنسخته المبتورة والمشلولة، لأن ذاك الماضي لم ينغلق على نفسه عندما كان حاضراً ولم يكن مقيداً بجمود النصّ، بل تم تعطيل النص والاجتهاد به في مجالات عديدة يسجلها التاريخ. وتقوم تلك المنظومة الثقافية على تكفير الآخر ومحاربته وإلغائه من منطلق امتلاك الحقيقة القائمة على دعوى إلهية تفرق بين الحق والباطل على أساس الانتماء الديني والإيمان بحسب مفهومها للإيمان، وبناء عليه، فإن كل من يشذ عن هذه الأنساق والتشريعات أو يوالي النظام أو ينتمي فكرياً إلى غير ثوابتهم فهو عدو وكافر؛ وتقوم بزرع فكر الجهاد من أجل إبادته، ونصرة الإسلام في عقول هذا النشء الذي يكبر على أسئلة يتم إفراغ عقله منها.

أما في المناطق الـ”المطهرة” وتلك التي لا تزال تحت سيطرة النظام فلا زالت الأسس التربوية والتعليمية والخطاب الرسمي والإعلامي وإدارة الحياة المجتمعية تسير في الأنساق ذاتها، بل زاد عليها التصعيد في النبرة الخطابية العاطفية لرص الصفوف وضمان الالتفاف حول مصلحة الوطن التي تتداخل في أدبياته مع مصلحة الدولة التي تتماهى مع النظام، وأحياناً كثيرة ممثلاً بأعلى رموزه، في وجه المؤامرة الكونية ومحاربة التطرف والإرهاب اللذين بقيا في صورة ضبابية تشمل كل ساكني المناطق المنتفضة وحتى المهجرين من بيوتهم وقراهم ومدنهم، واستمرت عملية تأسيس الكوادر منذ الطفولة بشكل تكون معها الأجيال القادمة تؤمن بشكل لا يقبل التفكير بأن الدولة التي هي النظام، هي المخولة حصرياً بتأمين عيشها ومستقبلها، فمن البديهي أن يكون ولاؤهم مطلقاً وأن يكونوا مؤمنين بالدفاع عنها ومحاربة الآخر الذي يتربص بأمنها واستقرارها.

فإذا كانت الهوية تخضع في صيرورتها للزمن، وإذا طالت هذه الحال المدمرة في سوريا، وازدادت أسباب الاقتتال وإضمار الضغينة ضد الآخر، فإن المجتمع السوري سيصل إلى اللحظة التي يكون جاهزاً فيها للتقسيم وذلك بوصول الهويات المنغلقة وحالة النكوص نحو الماضي والتشبث بأحلام وأهداف ذلك الماضي إن كانت قومية أو إثنية أو دينية أو طائفية، ولا يبقى غير الحدود الجغرافية التي سترسمها وتكرسها الأنظمة المتحاربة مهما حاولت النيات المنفلتة من أسر الهويات القاتل لترميم ما تهتك وردم الفجوات ومحاربة تقسيم الجسد السوري.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى