صفحات سوريةطيب تيزيني

سوريا وحكمة “سنوحي”/ طيب تيزيني

تقدم لنا كتب التاريخ المصري القديم الفرعوني نماذج من الكتاب الذين نقلوا لنا أخبار حروب دمرت الحجر والبقر وحضت على معالم إنسانية بدرجة تصل حد الفظاعة. ولما كانت الحروب في مصر وفي غيرها كفيلة في حالات غير قليلة بزرع الموت حيثما وجد بشر ونزاعات وحروب، بأدوات بدائية تطيل فترة الموت على نحو مأساوي. وكان ذلك متوافقاً مع مستوى التطور الحضاري المادي. وقد اقترن هذا المستوى من التطور بالقدرة على تحويل الأرض إلى مقابر جماعية لا يعرف أولها من آخرها. وكان هو ذلك يزيد، ويكتسب على أيدي الناس طابعاً مقدساً بعد أن أخذ يقترن باعتقادات دينية وباستخدام مواد يعتقد أنها تخلد البشر، وتجعل المتنفذين منهم فاعلين كذلك في قبورهم كما كانوا في حياتهم، مما زاد من الاهتمام بالموتى، بحيث أنتج ذلك منظومة من الطقوس والأقوال والأفعال يجب احترامها والامتثال لها وتعديل وتطوير تقنياتها.

لقد عاشت بلدان كثيرة في العالم القديم مثل هذا النحو المذكور. وكان التأكيد على مصر منطلقاً من الدراسات التاريخية الكثيرة، التي اشتغل عليها باحثون ومؤرخون ومستشرقون، نظراً لأهمية مصر التاريخية. والطريف أن نصاً كتابياً مصرياً قديماً تمّ التوصل إليه لكاتب مصري قديم اسمه سنوحي. وقد ترجم هذا النص إلى العربية في مصر ضمن سلسلة (كتاب الشهر). وفي هذا الكتاب يطلق الكاتب الحكيم سنوحي صرخة توجع واحتجاج، معلناً أن الأرض امتلأت بالموتى، الذين يموتون يميناً وشمالاً؛ مما سيجعلون أهل الموتى القادمين عاجزين عن إيجاد «حفرة»، يُحافظون فيها على كرامة الميت والموت. هكذا وعلى هذا النحو تنطلق الصرخة الثانية من أفواه الموتى وذويهم أن التهمينا أيتها الأرض، حيث شئت وحتى لو كنت ملونة بالدماء، التي استباحتها حراب القتلة ممن «فقدوا كرامتهم».

هذه الصورة المرعبة التي كانت تجتاح المسالمين وغيرهم في شعوب قديمة كثيرة، مثلت نموذجاً للفعل الخبيث الذي يستبيح الأرواح، ويمثل بالأجساد، وعبرت بكيفية كونية فظيعة مرعبة عن الأفعال الشائنة التي تدفع ثمنها أطراف عظمى من الشعب السوري، التواق إلى الحرية والكرامة والعدالة، وما أعلمنا إياه الكاتب الحكيم الدرامي عن أن الذي يقتل، لا يجد مأوى لجسده الذي دخل مرحلة السبات والهدوء الأبدي، فكم قتل أطفال ونساء وشباب وظلت أجداثهم تبحث عن مأوى، بعيداً عن أيادي وأرواح الشريرين القتلة، مما يعني لهؤلاء الضحايا أنهم رغم ذلك لن يسلموا من أذى الشريرين المجرمين ثانية وثالثة.

لقد أطلق «سنوحي» صرخته الغاضبة في وجه من يعمل على امتلاك ذوات البشر أحياء وأمواتاً، وقد زاد الأشرار القتلة في سوريا على ذلك أن أضافوا صيغاً وأنماطاً جديدة من الموت على حياة أولئك الأطفال والنساء والشيوخ. من ذلك اللجوء إلى الأسلحة الكيميائية، وإلى تقطيع أجساد الأطفال بالسكاكين، وقتل الشباب بأحجار ضخمة توضع على رؤوسهم، وحرق الأجساد وهي حية، وغيره. ويأتي ذلك في عصر تتصاعد فيه وتائر التقدم والنهوض العلمي والتكنولوجي العولمي، وتتفكك فيه ما حققته بعض الشعوب من تصورات سارة لفترة في طريق حداثة أحادية الجانب، أي عبر عداء وحشي وغير مسبوق لمنظومات القيم الحضارية، التي أسست خصوصاً لمنظومة حقوق الإنسان.

مبادئ الثورة السورية وقواعدها وقيمها لن تنتصر إلا بعد التأسيس لمحاكم عادلة حقاً تحاكم من أسسّ للقتل، بعد الشهر السادس من اندلاعها، وإذا كان ضرورياً التأكيد على رفض الثأرية الجاهلة الفاضحة، فإن العدل أساس الوطن والدولة المدنية القانونية الحافظة للكرامة.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى