صفحات سورية

سوريا ومخاطر النزاعات المذهبية


نوري بريمو

يداهم سوريا راهن سياسي جديد، عنوانه: ربيع سوري أزهَرَ ثورة بيضاء تتحوّل يوما بعد آخر إلى حمراء مضرّجة بدماء حرائر وأحرار سوريا، وبالرغم من عظمة تضحيات أهل سوريا ورغم أنّ هذا الربيع الساخن هو اسم على مسمى، إلا أنّ  ما يجري على أرض الواقع يتجاوز هذه التسمية شكلا ومضمونا، ويطرح أسئلة مشروعة وستبقى محيّرة ما لم تتحدَّد الملامح المستقبلية للمجريات في الأفق المنظور، خاصة وأنَّ معظم المدلولات الميدانية توحي إلى أنَّ هذه الثورة المشتعلة في كافة أنحاء البلد والدائرة رحاها بضراوة في مناطق التماس الطائفي (علوي ـ سني) التي يتعرض مدنيوها لأبشع أنواع المعارك التي تخلف وراءها مزيدا من القتل والتدمير والتهجير والتشريد الجماعي، قد تفرض على كافة الأفرقاء أن يراجعوا حساباتهم عساهم ولعلّهم يرأفوا بحال البد ويخففوا من حجم المأساة الأهلية التي قد تشهدها سوريا التي قد تتدحرج من تحت مزارب البعث إلى تحت مدلاف الطائفية المقيتة.

ولعلَّ سخونة الأوضاع تضع المهتمين بالشأن في صورة وطبيعة الخلافات المحتدمة مؤخراً بين النظام وطائفته وأمنه وجيشه وشبيحته من جهة وكجانب أول يطغى ويقتل الآخرين بالجملة وعلى الهوية، والشعب السوري الثائر وقوى المعارضة والطائفة السنية من جهة أخرى وكجانب ثاني يضحي بالغالي والرخيص للخلاص من حقبة البعث، في حين يُجمع معظم المراقبين المحليين والعرب والدوليين بأنّ هذا البلد بات يواجه تحديات مصيرية واحتجاجات داخلية ونزاعات طائفية لا طائل عليها، في الوقت الذي نجد فيه بأنه لا خيار أمام النظام سوى الكف عن استخدام السلاح ضد المدنيين والرحيل عن السلطة بالتي هي أحسن والا فالنتائج معروفة.

لكنّ العقلية الاستبدادية للنظام التي أدت إلى هيمنة مسلكية الاقتتال الطائفي على أجواء سوريا اليوم وبروز بوادر لظواهر التطرّف والتطرف المضاد الناجم بالأساس عن إرهاب الدولة وتعنُّت أهل الحكم وأتباعهم، لا بل إنّ طفوِ منهجية العنف على السطح في هذه المرحلة السورية العصيبة، قد يحرف مسار هذه الثورة ويغيِّر اتجاه مؤشر بوصلة مختلف الأطراف المعنية، وربما يتسبب بتشويه الطابع السلمي للمظاهرات التي يشهدها الشارع السوري المنادي بإسقاط النظام، وقد يتعرقل أي مشروع تغييري حقيقي يهدف لدمقرطة مؤسسات الدولة والمجتمع والكف عن الاحتكام للسلاح والتسليح الطائفي أو العرقي أو غير ذلك.

ومهما حاولت السلطة أن تتمترس وراء الشعارات العروبية والمقاوماتية وغيرها، ومهما أرادت تهويش الرأي العام عبر تصدير الأزمة وتسويق مسبباتها وتداعياتها بعكس ما هي عليه، ومهما حاولت التهرب والترويج لشعار ضرورات القضاء على المؤامرة الأجنبية المداهمة للديار بحسب زعمها!؟، فإنها لن تستطيع إخفاء الجرائم التي ترتكبها أجهزتها القمعية في في عموم أنحاء هذا البلد الذي يبدو أنه لن ينعم بالاستقرار ولن تهدأ ربوعه ما لم يرحل نظام البعث وتحدث فيه  تغييرات جذرية تأتي بحكم لامركزي تتحقق في رحابه التعددية والعلمانية والشراكة بين مختلف المكونات السورية التي ينبغي أن ينصفها الحق والدستور والقانون المدني.

وبسبب استخدام نظام البعث للعنف المفرط ضد المدنيين وقتله للآلاف واعتقاله لعشرات الأضعاف وارتكابه لجرائم طائفية تؤدي إلى انعدام مقومات العيش المشترك بين العلويين والسنة في سوريا، وبما أن هذا الحاضر الدموي قد يرسم لمستقبل سوري ملامحه مجهولة، فإنّ دخول طرف ثالث (خارجي دولي) لردع النظام وايقاف النشوبات وحقن الدماء بات ضرورة لإنقاذ أهل سوريا من جور الاستبداد ومن غول الطائفية التي هي احدى أخطر الاصطفافات الفئوية المتوارثة عبر الأزمان في منطقتنا التي يُحكى أنها كانت مهداً للحضارات وليست ساحة للمتناطحات الشعوبوية، خاصة وأنّ الطائفية أضحت في وقتنا الحالي من أكثر الظواهر انتشاراً وخطراً على شعوب شرق أوسطنا التي تحاول قدر المستطاع أن تراجع ذاتها وتتمدّن كي تستنهض من غفوتها وتتخلص على مضض من بلاويها المتنوعة الأشكال والألوان، فبعد أن كان التعصب الطائفي نائماً بنعراته وثاراته المتراكمة على مدى القرون الماضية، نراه اليوم قد استفاق واستشرى وتسلل بفعل فاعل إلى حياتنا بشكل سلبي ليس بأقل من الإدمان والإفراط في الطاعة العمياء لصالح مذهب معيّن والرفض المطلق للآخر والشطب عليه وفي أكثر الأحيان الإفتاء بهدر دمائه عبر إغراق آدميينا في دوامة العنف والعنف المضاد التي لا طائل من ورائها في ظل اتساع دائرة السعي من أجل تكتيل القوى على ضوء المصالح الطائفية بمعية التورّم السرطاني لمروِّجيها في هذه الأمكنة أو تلك ولدى هذا الفريق أو ذاك.

وإن إحتكمنا لمبدأ إحترام الحقيقة فإن شعبنا الكوردي وباقي أقليات سوريا ليس لها لا ناقة ولا جمل في أي نزاع طائفي يجري بين هذه الفئة أو تلك، في حين يتطلّب منا جميعاً ونحن نحيا أيام (الثورة السورية) في رحاب الربيع العربي في هذا العالم المتغيّر والسائر نحو العصرَنة، أنْ نحتكم إلى خيار حوار الحضارات الذي من شأنه توفير مستلزمات ومقومات السلم الأهلي الذي أمسى يهدّد بلداننا وشعوبنا بسبب ازدياد حدّة المتناحرات الفئوية المقيتة، والتي لا ينبغي أن نغرق في غياهب حيثياتها وتداعياتها الضارة، ففي كل الأحوال يُفترَض بنا التطلع إلى مستقبل أفضل والانتباه الشديد لقناعاتنا وإبداء منتهى الحذر من مغبة التعاطي السلبي حيال الآخر والوقوع في فخاخ الإدمان الطائفي أو العرقي أو غيره من المتراكمات العقائدية التي تسبّبَت في إبقائنا على هامش عصرنا.

إنّ اعتزاز أي إنسان بانتمائه لعائلته أو عشيرته أو قوميته أو طائفته أو بني جلدته أو…إلخ، هو مسلكية متوارثة في مجتمعاتنا الشرقية التي تطغى عليها طقوس كثيرة من هذا القبيل، وهو حق مشروع شريطة تسخير هذا الانتماء في المجالات الحياتية المفيدة حتى يصبح وسيلة ثقافية تمهيدية تدعم مبادئ حقوق الانسان وتعزز علاقاته بأخيه الإنسان على طريق الانتماء الجماعي إلى مؤسسات المجتمع المدني التي تبقى تشكل العماد الرئيس لتأسيس دولة عصرية مركبة وليس جاهلية وبسيطة.

لكنّ مسألة إحياء دور المجتمع المدني وبناء مؤسسات الدولة الديمقراطية في بلداننا الشرق أوسطية التي انقلبت فيها نعمة التنوع إلى نقمة على سكانها الذين باتوا منقلبين على أنفسهم وعلى بعضهم بسبب استشراء ظاهرة الطائفية التي يتم شحنها على قدم وساق لأغراض فئوية وسلطوية داخلية أو إقليمية أو دولية، ليست مسألة سهلة في ظل تعمُّد الدوائر الاستبدادية تجهيل المواطنين وقهرهم واستسهال قمع إرادتهم وطغيان حملات تهميش دور المثقفين ومناصري الدمقرطة وحقوق الإنسان والأمم، في حين لا يمكن لمجتمعاتنا أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام بغياب الدور الإيجابي للمثقفين وللنشطاء الديمقراطيين الذين  تقع على عاتقهم مهمة فضح أي مظهر من مظاهر التزمُّت التي عفا عليها الدهر.

إنّ بلدان منطقتنا أمسَتْ بحاجة ماسة إلى البدء بمشاريع تغييرات ديمقراطية حقيقية تشمل كافة مناحي الحياة، ما لا يمكن تحقيقه إلا عبر الكف عن الإدمانات المرَضية التي تستنبط وجوديتها وقوتها من مفاعيل مجتمعية رجعية شكلا ومضموناً، وفي هكذا حالات انقسامية باتت لا تُطاق لأنها تولّد العنف والعنف المضاد، يصبح لا بديل عن تشجيع النُخَب الثقافية للعمل على نشر روحية التسامح المجتمعي والإقرار بمبدأ تحسين علاقات الجوار وتمتين صلات القربى وإشاعة منطق إحترام الإنسان للإنسان على أساس المتوافقات والقواسم المشتركة وليس لأي اعتبار قومي أو ديني أو طائفي وإنما لكونه إنسان لا أقل ولا أكثر.

أما في سوريا، فلا بديل عن البحث عن أساليب وأدوات ايقاف القتل واسقاط نظام البعث وانهاء مختلف مؤسساته التشريعية والقضائية والتنفيذية، والسعي الجماعي للكف عن النعرات الطائفية ووضع أسس ومقومات الدولة التعددية اللامركزية الحاضنة لكافة السوريين بعربهم وكوردهم وباقي أقلياتهم القومية والدينية والمذهبية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى