صفحات سوريةنور الله السيّد

سورية: إرهاب الابتزاز

 

د. نور الله السيّد

مع اشتداد المعارك بين جيش النظام والجيش السوري الحر ورجحان كفة الأخير في العديد من المعارك في معظم أرجاء سورية. ووصول المعارك إلى قلب مدينة دمشق، وليس أطرافها فقط، تضيق حرية المناورة أمام النظام للخروج بحل يحفظ ماء الوجه. لقد أضاع النظام منذ أول يوم في الأزمة السورية كل فرص المعالجة والوصول إلى حل مقبول آملاً في غلبة حله الأمني وهو ما لم يتحقق. فبدأ منذ مدة البحث عن مخارج له وذلك بالتلويح بتهديدات لا يزال قادراً على تنفيذها داعياً الآخرين للتعجيل بتقديم حل يقبله قبل أن يبدأ في تنفيذها معاً أو بعضها على طريقة القاتل الذي يحتجز رهائن مقابل بقائه حياً.

ومن بين خيارات الابتزاز: الحرب الأهلية بطعم طائفي، إقامة دويلة في الساحل وتقسيم سورية، استخدام السلاح الكيمائي أو تسريبه إلى جماعات مناوئة تعمل في المنطقة، تدمير دمشق ومضاعفة عدد القتلى. وكلها خيارات مارقة وليست خيارات لسلطة فيها بعض من عقل. النظام اليوم يتصرف وعلى رؤوس الأشهاد باعتباره عصابة أشقياء تمارس الابتزاز الإرهابي على طريقة آل كابوني.

بعض هذه الخيارات الإرهابية أخذت في التراجع لأسباب موضوعية مثل الحرب الأهلية التي راهن النظام على الدفع بها، وحضّر لها المذابح في أيار وحزيران وتموز، ولكن وعي السوريين واندلاع المعارك في حلب وغرقه فيها فوّتا عليه فرصة إشعال هذه الحرب التي كان يأمل من اشتعالها التدخل وسيطاً يفرض شروط بقائه مقابل فرض وقف إراقة دم المتقاتلين.

وكذلك ابتزاز إقامة دويلة على الساحل السوري. ومثل هذا الابتزاز موجه بالدرجة الأولى للقوى الإقليمية والدولية يبعث عبره برسالة مفادها أنه سيترك بذلك لروسيا وإيران موطئ قدم في المنطقة وهو موضوع تناوله الأسد في شباط الماضي أثناء لقائه نائب وزير الخارجية الصيني ملمّحاً إلى أن هناك من يتحدث عن التقسيم مثل هذا الخيار ضعيف أصلاً من حيث البواعث ومن حيث الظروف الموضوعية. فمن ناحية البواعث، لماذا لهذه الدولة أن تقوم الآن في حين أن أهليها رفضوها يوم عرضتها فرنسا عليهم ممتدة من اسكندرون شمالاً وحتى جبل محسن جنوباً، أي على أرض أكبر من لبنان حالياً وحدود أكثر انفتاحاً؟ هل ستفعل طائفة الأسد ذلك من أجله؟ علماً بأن الأسد ومن سار في ركابه لم يقدموا أي خدمة لطائفته إلا وضعها في مصيدة الطائفية وإرغامها على ابتلاع المُوسَى، وجعلها تقدم أكبر نسبة من الشهداء في سورية حتى يومنا هذا نتيجة غبائه، فهل ستقدم المزيد؟ ومن حيث الظروف الموضوعية فمنطقة الساحل السوري مأهولة من طوائف وقوميات مختلفة علوية وسنية ومسيحية وإسماعيلية وتركمانية وأرمنية وكردية، ومن ثم فالطائفة العلوية لا تشكل الأغلبية الكاسحة. إضافة إلى كل ما سيثيره ذلك من مشاكل إقليمية سواء مع تركيا أو مع لبنان ومع القسم المتبقي من سورية وخسارة العمق السوري كعمق استراتيجي والأهم من ذك هو أنه لم يعد هناك مناطق جغرافية خاصة بطوائف أو قوميات في سورية، فقد حدث اختلاط كبير انتفى معه أي احتمال لاقتطاع منطقة معينة من قبل طائفة ما دون عمليات تهجير مؤلمة ومكلفة دون أن يكون هناك من دوافع حقيقية لذلك.

فالعلويون اليوم مثلاً موجودون على كل الأرض السورية من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال. فقد أخذوا بهجرة الجبل منذ الخمسينيات بحثاً عن العمل. واستوطنوا المدن من دمشق إلى حمص وحلب واللاذقية وغيرها وكونوا علاقات اقتصادية واجتماعية مع المحيط الموجودين فيه، فكيف سيتخلون عنها والعودة إلى مناطق تعاني من ضعف البنية التحتية ووسائل الإنتاج؟. كل هذا إذن ينفي احتمال قبولهم لإقامة مثل هذه الدويلة.

أما الابتزاز الكيميائي فهو أمر يجب أخذه على محمل الجد. فقد بدأ جيش النظام بحسب أنباءً مؤكدة تقول بتحضيره لهذه الأسلحة. والسلاح الكيميائي ذو فترة صلاحية محدودة لذا يجب تحضيره في فترة استخدامه. والنظام يحضّر لاستخدامه في مناطق محدودة المساحة، أي باستخدام قنابل كيميائية صغيرة الحجم ومحدودة الانتشار يمكن استخدامها ضد الجيش الحر المتخندق في مناطق معزولة نسبياً أو في البلدات التي تأوي المعارضة المسلحة. وهذا سيعفي جنوده المنهكين والمذعورين من مواجهة جنود الجيش الحر. ومن مؤشرات تحضيره لاستخدام الأسلحة الكيمائية تحذير وزارة الخارجية السورية من استخدام ‘الإرهابيين’ للسلاح الكيميائي، فقد بدأ النظام إذن بتحضير المطيّة! لقد سبق للنظام أن استخدم أسلحة فتاكة محرمة مثل القنابل العنقودية والفسفورية الحارقة وقذف قرى سورية مأهولة ببراميل المتفجرات بحجة أنها مناطق حاضنة للمعارضة المسلحة تحذيراً لبلدات أخرى حتى لا تقوم بمثل ذلك. ومن ثم فهو سيستخدم هذه الأسلحة ضد السوريين خاصة إذا أُخذ بالاعتبار مستوى الحماقة التي تعامل بها النظام مع الأزمة. وتحذير وزارة الخارجية هو تلويح أيضاً بإمكان وصول هذه الأسلحة إلى جماعات في المنطقة لا يرغب العالم بوصولها إليهم أي يجب الاستعجال بتقديم حل.

أما تدمير دمشق فهو كابوس أهل دمشق الحالي لأنهم يعرفون الآن أن لا شيء يمكن أن يردع مثل هذا النظام عن فعل أي شيء مهما بلغت خسّته، هم يرون رأي العين كيف يُدك ريف دمشق بالدبابات والطائرات وراجمات الصواريخ، ومن ثم فيمكنه أن يأخذهم رهينة لتأمين خروجه ورجالاته من الأزمة آمنين وإلا فعلى دمشق أن تدفع الثمن كاملاً. حشد النظام حول دمشق من الجند أكثر مما حشد في كل المدن السورية مجتمعة، وجعل قواعد صواريخه في قاسيون جاهزة. وما هذا الحشد الكبير من الجند والسلاح المخيف إلا تحضيراً لمعركة سيستميت دون خسارتها حتى لو دمر دمشق كلها.

قد تصل المحادثات التي تدور في الكواليس، دولياً أو محلياً، إلى حل أعرج ربما مقابل الاستجابة لابتزاز النظام، أو قد يكون الجيش الحر أسرع في ترجيح الكفة لصالحه ويُسقط النظام بفاتورة أرواح عالية، ولكن ثمن ذلك قد يكون أيضاً دمار دمشق. يبدو أن دمشق ستدفع الثمن في كل الأحوال… وكعادتها دمشق تدفع الأثمان في نهاية كل مرحلة من مراحل تاريخ سورية.

‘ اكاديمي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى