صفحات سوريةغازي دحمان

سورية الأسد الجديدة/ غازي دحمان

 

يكشف مسار الحراك العملاني لقوات النظام، عن مساع حثيثة لتشكيل بنية سورية جديدة، جغرافياً واجتماعياً، في الشكل لا تنطبق على حدود انتشار الوطنية السورية بحدودها الجغرافية ما بعد الاستقلال عن فرنسا، وبالتالي فهي بنية مفارقة للحالة التاريخية السورية وتنذر برسم معالم جديدة ليس لسورية وحسب وإنما على المستوى الإقليمي الأشمل. أما في المضمون، فهي بنية مختلطة ببعد وظيفي واحد يهدف إلى صياغة سورية جديدة مؤيدة ومتماسكة مقابل سورية متمردة ومشتتة.

دولة النظام تلك ليست دولة طائفية، على ما حاولت الكثير من التحليلات تسليط الضوء عليه، فهي وفق المنظومة الجغرافية التي يراد تكريسها بها تبدو دولة ما فوق طائفية، متجاوزة للطوائف، وذلك لاشتمالها على طيف واسع من المكونات السورية، أو جميع المكونات التي تقع في مدار هلال الجغرافيا المستهدفة، في حين أنها تبدو ذات طبيعة أيديولوجية، سواء لجهة انطوائها على الفئات المؤيدة لنظام الحكم، أو لجهة ارتباطها الجغرافي والديموغرافي بالشرايين الاجتماعية وطرق المواصلات الخاصة بما يسمى «حلف الممانعة».

من دمشق جنوباً إلى شواطئ المتوسط غرباً، وما بينهما القلمون وحوض العاصي، ترتسم دولة النظام. المواقع الخارجة عن هذه الخريطة لا تعدو كونها ثغوراً أو قواعد متقدمة للدفاع عن حدود هذه الدولة. جلّ النشاط والفعالية العسكرية لقوات النظام يتركز في هذه المناطق، كما توجد هناك أيضاً أكثر مواقعه العسكرية أهمية، إضافة إلى ذلك تقع ضمن هذه المنطقة شبكة خطوط مواصلاته التي تربطه بـ «حلف الممانعة»، سواء عبر القلمون بجبال لبنان الشرقية وحليفه «حزب الله»، أو عبر ريف حمص الشرقي الذي يصله بالعراق، أو من خلال المنفذ على العالم الخارجي عبر موانئ البحر المتوسط.

غير أن البعد الأيديولوجي في حالة الصراع القائمة ينطوي، وهذه حقيقة واقعية، على بعد مذهبي، بحيث تصادف أن الحدود وطرق المواصلات التي تتضمنها دولة النظام هي أيضاً حدود الفصل بين بعض المكونات في المنطقة، كما أن طرق المواصلات تكمن أهميتها اللحظية في مدى ضخها للقوة البشرية القادمة للدفاع عن النظام، سواء لجهة لبنان أو العراق.

وإذا كانت دولة النظام تأخذ الكثير من تعيناتها ومواصفاتها ليس من تشكّلها وحسب، وإنما أيضا من التشكّل الذي تحاول صناعته في المقلب المقابل، فإن هذا التشكل لا يبخل بمنحها مزيداً من المبررات وأسباب الشرعية، وإذ تظهر دولة النظام أكثر قدرة على الانسجام السياسي والتواصل الجغرافي وكذا التماسك العسكري، فإن الكيان، أو الكيانات المقابلة تنطوي على درجة عالية من التفكك، بالأصل هي ليست نواة لمشروع دولة أو كيان، لا في البرنامج ولا في المنهج، كما تنطوي على حالة صراعية بسبب تنافر مكوناتها، فضلاً عن كونها تعني، في ما تعني، حالة من الفوضى الإقليمية السلبية.

في البعد العسكري لتلك الترسيمة الجديدة للدولة، تتحول المناطق الخارجة عن سلطة النظام إلى ما يشبه معازل حدودية تعزل تأثيرات الخارج المعادي لدولة النظام، حيث يجري حصر التأثير والجهد التركي باتجاه الحدود الشرقية، الرقة والحسكة وأرياف حلب، وفي هذا ضمانة لانشغال تركي مديد، وحصر الفعالية التركية داخل حدودها في مواجهة تشكيلات تنظيمية وقتالية لا يمكن التواصل معها أو بناء تسويات سياسية وميدانية. من جهة الجنوب يبدو الأمر اكثر جدوى لجهة عزل الفعالية الخليجية الآتية من المعبر الأردني وحصرها ما قبل حدود دمشق، حيث حالة التشتت التي يراهن النظام على استمرارها في الجنوب نتيجة غياب الخدمات والاستقرار، ستكون كفيلة بتدمير أي إمكان لتطوير حركة مضادة وفاعلة صوب دمشق.

غير أن البعد الاقتصادي يبدو أكثر بروزاً على السطح على مشهد جغرافية دولة النظام، فعدا عن كون المناطق التي تحتويها جغرافية الدولة أقل دماراً، بما يضمن إمكانية التقليل من الإنفاق على عمليات الإعمار والخدمات، فإنها أيضاً تحمل إمكان استثمار مستقبلية، وذلك من خلال ربطها بمشروع الغاز الشرق أوسطي العالمي، عبر ربط مواني اللاذقية وطرطوس واستثمار خدماتهما لهذا الأمر، كما يمكنها أيضاً استقبال النفط والغاز القادمين من العراق وإيران وربطهما بالمشروع الروسي الهادف إلى السيطرة على أسواق أوروبا من خلال شبكة الاكتشافات الجديدة على سواحل المتوسط.

تلك هي سورية الجديدة التي يسعى نظام الأسد إلى بنائها وترسيخها في الواقعين الإقليمي والدولي، حدودها صارت ظاهرة وشبه معلنة، أما تثبيتها بحكم الأمر الواقع فهو قضية لا تتجاوز مدتها تاريخ الانتخابات الرئاسية، فسورية التي ستنتخب باتت جاهزة.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى