صفحات المستقبل

سورية الثورة: في نجاحها ومرحلتها الانتقالية، الحلّ سوري


سَطَرتُ أول ثلاث فقرات من هذا المقال في أواخر تشرين أول الماضي، ثم تسارعت الأحداث المتعلّقة حُكْما بصلب موضوع هذا المقال (بدءا من تعريب الثورة السورية، ثم المبادرة العربية وكل التجاذبات حولها، ثم جهود توحيد المعارضة وكل التجاذبات حولها أيضا، ثم ظاهرة الجيش الحرّ، ثم بعثة المراقبين العرب، ثم محاولات تدويل الثورة السورية)، فآثرت التريّث حتى نرى إلى أين ستقود هذه الأحداث، فلعلّ نتيجتها تلغي الحاجة إلى معظم هذا المقال. ولكن بعد ما جرى في مجلس الأمن الأسبوع الفائت ومواجهة القرار العربي-الغربي المطروح بفيتو روسي-صيني مزدوج، أرى أننا عدنا إلى المربّع الأول (وهو المربّع الطبيعي في واقع الأمر) للثورة السورية. وعلى ذلك، ما زال هناك داعٍ لمقالي هذا، بل أرى أن كل ما جرى في الأشهر الأربعة الماضية يدعّم الطرح الذي سيُقَدَّم في هذا المقال. لذا سأبقي على الفقرات الثلاث الأولى دون تعديل وقبل أن أبدأ أترحّم على كافة الشهداء الذي قدّموا أنفسهم قرابين الحرية والمواطنة في سورية، علّ الفرج أن يكون قريبا.

في المقالين السابقين ذكّرتُ بأهداف الثورة ومرتكزاتها ثم عرجت على قضية تمثيل الثورة وتشكيل قيادة لها. وخَلُصْتُ إلى أن ثورتنا نادت بالحرية والكرامة ولخَّصَتْ قائمة مطالبها بقيام “دولة مدنية ديمقراطية تعددية” والتزمتْ السلمية واللاطائفية ورفض التدخل الخارجي أسسًا لهذا النضال. ثم رأيتُ أنه بناء على ذلك، لا يمكن لأي جهة أن تدّعي تمثيل الثورة احتكارا، ولكن يمكن لأي طرف أن يدّعي تمثيل أهداف الثورة ومرتكزاتها، وبالتالي فإن وجود جسم موحّد ليتحدث باسم الثورة أمر غير ملزم (مع أنه محبّذ)، ووجود أكثر من جهة لتمثّل أهداف الثورة ومبادئها أمر طبيعي، لا ينفي المصداقية عن أي منها، ولا يعطي الشرعية دون غيرها لأي منها. وبناء على هذا الأساس، يمكننا أن نعرج الآن على التصورات التي يمكن من خلالها قيادة هذه الثورة إلى بر الأمان مع شكل المرحلة الانتقالية المطلوبة لتحقيق أهداف الثورة.

ثالثا: في نجاح الثورة والمرحلة الانتقالية

إن نجاح الثورة وإسقاط النظام ليستا مترادفتين، فالثورة عندما قامت، ما كانت تطالب بإسقاط النظام، بل طالبت بالحرية والكرامة. وعندما أيقن السوريون استحالة تحقيق ذلك عن طريق النظام (تفاوت زمن هذا اليقين، ولكن غالبية مؤيدي الثورة وصلوا لهذه القناعة بعد خطاب الأسد الأول قبل نهاية الشهر الأول للثورة، وانعكس ذلك على الشعارات المرفوعة والمردَّدَة في المظاهرات في مختلف المناطق في سورية) وأيقنوا أن استمرارية النظام ستحول حتما بين سورية وتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية التعددية الكافلة للحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، قرروا أن إسقاط النظام أصبح ضرورة في سبيل تحقيق الهدف. إذاً، إسقاط النظام ضروري لنجاح الثورة، ولكنه ليس كافيا بحد ذاته. لذلك، فإن أي تصوّر يرمي إلى إسقاط النظام يجب أن يضع ذلك بعين الاعتبار، ما يعني بالضرورة استمرار الثورة (وبالتالي استمرار المظاهرات) حتى تحقيق الهدف الأساسي. وبالتالي، فإن أي تصوّر يسقط النظام دون الوصول إلى دولة سورية مدنية ديمقراطية تعددية هو تصوّر لا يحرص على نجاح هذه الثورة.

إذاً، كيف يمكن أن يسقط هذا النظام في ظل شروط الثورة ومع غياب أي إرادة لدى أركانه لتجنيب سورية المجهول مع الإصرار على الحل الأمني-العسكري الذي أثبت فشله الكامل؟ إن التكهّن بالزمان والكيفية يبدو غير منطقيّ أو ممكن خاصة وأنه ما كان لأحد أن يتكهّن بأن تصير الأمور إلى ما صارت إليه، وما كان أكثر السوريين تفاؤلا يعتقد بأن حافظ الأسد ممكن أن يُشْتَم في ساحات سورية وبالصوت الجمعي الجهري المصوّر من أقصاها إلى أقصاها. أي حدث مهما صغر قد يمثّل مناسبة لتصاعد الأحداث بسرعة، وبالتالي فإن المفاجآت حاضرة دَوْما. ولكن يمكننا افتراض تصورّات تتناسب والمعطيات الحالية وقد تتشابه والتجارب التاريخية أو المعاصرة.

إن عملية إسقاط أي نظام في العالم يمكن أن تتم مدنيّا، أو سياسيّا، أو عسكريّا، أو بخليط من هذه الوسائل الثلاثة، وعادة ما يكون الغرض النهائي من أي تحرّك مهما كان شكله هو فرض نتائج سياسية معيّنة. وبالنظر إلى ثورتنا في سورية فإن الحراك المدني (أي الشعبيّ) هو الحراك الطاغي منذ 15 آذار الماضي وحتى الآن، وقد رَسَم أروع البطولات في وجه آلة بطش همجية بربرية لا تقيم للإنسان أي وزن. كما أن هذا الحراك استطاع إبداع أبهى الوسائل للتعبير عن أهدافه وتثبيت إرادته بوجه القمع، كلّ ذلك في ظلّ غياب سياسي كامل لمدة 6 أشهر لم تشهد فيها الساحة السياسية السورية سوى دعوات كاذبة زائفة من النظام رفضها الثوار قبل أن ترفضها المعارضة، وما أن تشكّلت أجسام سياسية هشّة للعمل على تحقيق مطالب الثوار في أيلول وتشرين أول حتى بدأت بالتناحر وتسجيل النقاط على بعضها البعض مبتعدةً عن الأهداف الرئيسية للحراك المدني. بعض التيارات راهنت على التدخل العسكري متجاهلة بسذاجة كاملة كافة المعطيات الإقليمية والمحلية، وبعض التيارات تبنّت نبرة نخبوية لم تلامس المعاناة اليومية للثائر السوري فابتعد خطابها عن الشارع، والبعض الآخر انتهازيّ يركب الموجة أينما حلّت ولا يقدّم جديدا يؤتي أُكُلا غير صورة إعلامية أو مناصب مرحلية تخدم مصالحه الضيقة. ورغم كل ذلك، صمد الحراك الشعبي وسطر تضحياتٍ سيخلّدها التاريخ، وامتدّ جغرافيا وزادت نقاط التظاهر تصاعديا، وانضمّت فئات جديدة للحراك الشعبي أو لمعارضة النظام رغم بهاتة الخطاب السياسي الإعلامي.

وفي ظلّ ذلك، وأمام البطش الهمجي فوق الاستيعاب الذي يمارسه النظام، ومع حملات التجييش الإعلامي لمن له مصلحة والتي ترافقت مع انتصار الثوار في ليبيا على قوات نظام القذافي ثم اعتقال القذافي وقتله، تتالت الدعوات إلى عسكرة الثورة، وهي في محوريْن اثنين ترابطا معا إلى حدّ كبير: محور أراد تدخّلا عسكريا خارجيا ما (حظرًا جويًّا، ممراتٍ آمنة، دعمًا عسكريًّا لمنشقي الداخل)، ومحور دَعَمَ ما يسمّى بالجيش الحر، وهو مصطلح واسع أصبح يُطْلَقُ على كل من يحمل سلاحا ضد النظام في سورية دون أن ينطبق عليه بالضرورة مفهوم “الجيش” بمعناه المعاصر فَغَدَتْ هذه الجماعات المقاتلة ضد النظام أقرب إلى الميليشيات، والتي قوامها الرئيسي في معظم الأحيان جنود منشقون عن الجيش السوري النظامي. فأما من كان يوهم نفسه بالتدخّل العسكري الخارجي، فاصطدم بالحقائق المعلومة للجميع والتي ليس أولّها عدم وجود رغبة غربية حقيقية بالتدخل العسكري في سورية لحسابات عديدة (استقرار الكيان الصهيوني، الانشغال بإيران، غياب الموارد الاقتصادية الكفيلة بتغطية حرب كهذه لدى سورية، الانتخابات الرئاسية الأميركية في نهاية هذا العام)، وليس آخرها المعارضة الشديدة لروسيا لمحاولة إسقاط المثال الليبي على سورية. ومع الفيتو الروسي-الصيني الأخير نكون قد طوينا ملف التدخّل العسكري عن طريق مجلس الأمن وكان ملفًّا غير منطقيّ شكّل لبّ حملات التحريض الإعلامي على كثير من السوريين الواقعيين، وأدى إلى إضاعة الكثير من الجهود خلف وهم غير حقيقي. ومع إغلاق هذا الباب، تصبح فرصة تدخّل عسكري خارجي ضئيلة جدا تنحصر في تشكيل تحالف خارج نطاق الأمم المتحدة، وهو تحدٍّ كبيرٌ جدا يتطلّب تضافر المصالح بين مختلف الدول المهتمّة بمصالحها (وليس مصالح السوريين التي لا قيمة لها لدى الخارج الغربي والعربي والشرقي على السواء)، ولا أرى أن هذه العوامل متضافرة أو قابلة للتحقق في القريب العاجل، أو على الأقل هامة لدرجة دفع هذه الدول للتدخّل عسكريا خارج نطاق الأمم المتحدة.

وأما دعم الجيش الحر، فدَعْمُ بعض عناصره هنا وهناك قائم فعلا، ولكن ليس بالمستوى الذي يسقِطُ نظامًا، ولن يصل للمستوى الذي سيسمح بإسقاط النظام. ولنتذكّرْ جميعا أن إسقاط النظام الليبي “الأضعف” من النظام السوري والأقل دعما سياسيا وعسكريا والأقل أهمية سياسيا تطلّب تدخّل طيران الناتو وتزويد الثوار الليبيين بالسلاح الغربي والعربي، وبالرغم من ذلك أخذت العملية 6 أشهر للسيطرة على طرابلس، فكيف يمكن لهذا الجيش الحرّ أن يسقط نظاما أقوى وأكثر دعما وأهمية في المنطقة دون تغطية جوية ودون سلاح ثقيل؟ وعلى ذلك، فإن فكرة إسقاط النظام عسكريا تصبح وهما غير قابل للتطبيق على الأقل في الوقت الحالي. وهذا لا يعني بكل تأكيد التخلي عن العناصر المنشقّة عن الجيش السوري النظامي، بل هذه عناصر وطنية أبرّت قَسَمَها بالدفاع عن الوطن والسوريين ولا تستحق إلا كلّ احترام وتقدير. ولكن المطلوب حصر دور هذه العناصر بها أولا (أي عدم انتقال السلاح بيد المدنيين) وبالمهام الدفاعية بالمعنى الحرفي للكلمة (أي حماية المتظاهرين في أماكن تظاهرهم وتواجدهم، فقط لا غير). كما يفضّل إخضاع هذه العناصر المنشقّة لقيادة محليّة مدنيّة تتواصل مع قيادة عسكرية ميدانية لتنظيم العمل ومنع حدوث أخطاء.

إذاً ماذا الآن؟ كيف يسقط هذا النظام مع غياب الاحتمال العسكري؟ إن المخرج من الطريق المسدود الذي قد يتهيّأ لنا هو برَفْد العاملين المدني-السياسي وإعادة العامل العسكري إلى مكانه الطبيعي المتمثّل حصرا في حق الدفاع عن النفس. إن تحقيق ذلك يتطلّب الكثير من التسامي فوق الجراح وفوق الكبرياء وفوق المصالح الذاتية، والتركيز على هدف هذه الثورة الأساسي في تحقيق سورية مدنية ديمقراطية تعددية. الآلام عميقة وغائرة والندوب التي صنعها النظام ستبقى طويلا وقد لا تذهب أبدا، ولكن لنتذكّرْ جميعا أن دماء أكثر من 8000 آلاف شهيدا قد سقطوا حتى الآن ستذهب هدرا إن ضاع الوطن أو إن انشغلنا بتصفية حسابات لنا أو لغيرنا (كما تسعى بعض الدول العربية والغربية محاوِلة خوض حرب بالوكالة على حساب دماء السوريين) متجاهلين أن الكلفة البشرية سترتفع كثيرا مع أي تأخير عن الخطو قُدُما نحو الحلّ وإن كان مرّا، وإن استمرّينا في الجري خلف وهم الحسم العسكري والذي وإن ألحق خسائر مؤقتة بالنظام وشبيحته، إلا أنه يزيد الكلفة البشرية في المجمل.

الحلّ سوري، فكما بدأت هذه الثورة بسواعد سوريّة، ستنتهي بسواعد سوريّة. والمطلوب هو العمل على محورين: محور داخلي يعتني بتسيير أمور الشارع الثائر بدلا عن النظام السوري (أي تطبيق فكرة الإدارة المحلية) بحيث يكون هناك لكل مدينة أو حي إدارة محلية تعتني بكافة الأمور الخدماتية اليومية ويكونُ فيها للعناصر المنشقّة عن الجيش دورُ حفظ الأمن والنظام بحيث تخضع هذه العناصر للإدارة المحلية. يتم تطبيق ذلك على كافة الأرض السورية خاصة تلك التي أصبحت فعليا خارج نطاق النظام السوري، ويكون من بين مهام هذه الإدارات المحلية تعزيز النضال المدني في وجه النظام بالتظاهرات والإضرابات وحملات الإخاء الأهلي لضمّ أكبر عدد ممكن من شرائح المجتمع للحراك المدني. وفي موازاة ذلك يكون هناك محور خارجيّ ذو وظيفية سياسية (إضافة لوظيفته الإغاثية البديهية) يتشكّل من تحالف من أهم القوى السياسية المعارضة الحالية (لا أدري كيف يمكن لهذا التحالف أن يتمّ، ولكن الكثير من التسامي فوق الغرور والكبرياء والمصالح الذاتية يجب أن يمارَس) بأقل عدد ممكن من الممثلين بحيث يتشكّل ائتلاف قادر على اتخاذ القرارات بديمقراطية وديناميكية عالية جدا وبالأغلبية البسيطة ويكون له وظيفة وحيدة لا ثانيَ لها هي التوصل إلى اتّفاق سياسي بالحد الأدنى (والذي حدوده هو سورية ديمقراطية تعددية مدنية لا يحكم فيها من شارك مباشرة بسفك الدماء) يكفل سحب الجيش من الشوارع وتشكيل حكومة ائتلاف وطنية بصلاحيات كاملة قد تتضمّن أشخاص من خارج المعارضة بشرط أن لا يكون لهم دور عسكري أو أمني في ما يجري في سورية الآن. يتطلّب تحقيق ذلك التوقّف عن كثير من المزايدات الإعلامية لتسجيل النقاط السياسية واقتسام كعكة السلطة المسمومة والعمل بالتعاون مع أطراف دولية قادرين على التأثير في النظام السوري بشكل أو بآخر. ومع تشكيل هذه الحكومة الائتلافية يمكن الشروع في بناء سورية المدنية التعددية الديمقراطية وفق مبادئ معيّنة تحتكم إلى توافق الجهات المختلفة وموافقة الشارع على ألا تتعارض مع الحرية والمواطنة وشرعة حقوق الإنسان.

إن أي إصرار على التغاضي عن استحالة إسقاط النظام عسكريا وفق الظروف والمعطيات الحالية والسعي للمزايدات الإعلامية غير العملية لن يؤدي إلى نتيجة يمكن البناء عليها غير مساهمة ذلك مباشرة في رفع أعداد ضحايا بطش النظام الأسدي الوحشي. بينما التبصّر بقلة الحلول الممكنة وأهمية الدور المدني-السياسي في الوصول إلى نتيجة مع التعالي على الجراح والمصالح الشخصية والإدراك أن وقف المعاناة هو أولوية فوق كل شيء مع كوْن سورية ديمقراطية مدنية تعددية هو الهدف الأساسي للحراك هو الكفيل بدفع الجميع للعمل من أجل الخروج مما يعتري البلد بأسرع وقت ممكن وبأقل كلفة بشرية رغم تقديرنا لغلاوة الدم السوري مهما قلّ.

عاشت سورية حرة، والرحمة والخلود لشهداء الحرية.

فادي عرودكي

http://the-syrian.com/archives/66644

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى