صفحات العالم

سورية: الديموقراطية الطفولية

 


حسام عيتاني

معارضو مؤتمر انطاليا ومؤيدو اجتماع بروكسل، منتقدو لقاء «سميراميس» ومنتقدو المنتقدين … أهلاً بكم إلى متاهة الديموقراطية.

لم يجرِ أي من هذه اللقاءات من دون اعتراضات وتحفظات. ولم يعقد اجتماع إلا وانسحب احد المدعوين منه. ولم تطرح مسودة نقاش إلا وقوبلت باحتجاجات وانتقادات. الاعتراضات والتحفظات تتركز على استحالة الحوار مع الحكم في سورية قبل وقف الحملة الأمنية – العسكرية التي اختارها النظام كرد على الانتفاضة السلمية. ويخشى المعترضون من أن يشكل أي مؤتمر في الداخل حبل إنقاذ للرئيس بشار الأسد والحلقة المحيطة به والتي تزداد عزلة وتخبطاً. كما يحاذر ناشطو الداخل من وجود أي ارتباطات للمعارضة في الخارج، مع جهات أجنبية قد تبيّت نية التدخل العسكري في سورية.

التحفظات والمخاوف مفهومة ووجيهة كلها. فبعد ثمانية وأربعين عاماً من فرض حالة طوارئ قاسية، بات الشك والريبة هما العنصران الأبرز في تشكيل مضمون التعامل السياسي السوري. لقد دمرت «الطوارئ» ومفاعيلها الحياة السياسية والعامة في سورية وحولت جميع العاملين في الحقلين السياسي والعام إلى مشتبه في وطنيتهم، وفق تعريف السلطة، وإلى فارين ومطاردين. غنيّ عن البيان أن التعسف السلطوي هذا أدى إلى تدمير النخب الثقافية والسياسية وإلى التسبب في تصحر الممارسة السياسية وانعدام القدرة على تطويرها والارتقاء بها.

وإذا وضعت لائحة بأسماء كل الناشطين السياسيين السوريين، من مؤيدي النشاطات المذكورة ومن المتخوفين منها، والذين ينتمون إلى طيف المعارضة الواسع، لظهر بسهولة أن لجميعهم تاريخاً من المعاناة والاعتقال والسجن والتعذيب في أجهزة الحكم الأمنية والقضائية. المقصود هنا، أن ما عاناه السوريون العاديون والمنخرطون في الشأن العام، هو من الهول ما يكفي لزرع كل أنواع الهواجس والشكوك في نفوسهم حيال أي مبادرة كانت. التحفظات على مؤتمر انطاليا تبدو على طرف نقيض من الاعتراضات على لقاء «سميراميس»، بمعنى التخوف من الاستغلال الخارجي للمعارضة مقابل الخشية من الوقوع في أشراك النظام. وبين هذين الهاجسين تسير المعارضة السورية اليوم.

دعونا نقر أن البحث عن اطر ناظمة لقوى سياسية وشعبية وأهلية تعرضت إلى القمع الممنهج منذ حوالى الخمسين عاماً، ليس بالأمر الهين. وأن الارتباك والأخطاء والشبهات والمبالغات، هي جزء مكون من مسيرة الشفاء من مرض الديكتاتورية. وأن هذه لم تلقِ أسلحتها بعد ولم تستسلم وإنها تتحين الفرص للانقضاض على الثورة وسحقها.

لكن الأهم هو أن المعارضة السورية، بأطيافها المختلفة وبالملايين من المنضوين في نشاطها اليومي في الشوارع والمدن، من القامشلي (قامشلو) في أقصى الشمال الشرقي إلى درعا في الجنوب ومن مخيمات اللاجئين في تركيا إلى أحياء ركن الدين في دمشق، ورغم بعض الحدة في تبادل الاتهامات بخيانة دماء الشهداء وتضحيات المعتقلين، أصبحت قادرة على التفكير بصوت عال وعلى البوح ببواعث قلقها على ما حققته الثورة من مكاسب على طريق بناء سورية ديموقراطية، آتية لا ريب فيها.

ومن الملحّ القول إن الشكوك والطروحات المتناقضة والنشاطية المفرطة لدى البعض والخمول لدى البعض الآخر، عوارض لما قد تصح تسميته «مرض الديموقراطية الطفولي». لكن على السوريين ومن ينتظر معهم تحقيق أهداف انتفاضتهم، ألا يعتريهم الذعر من المرض هذا. فهو، في أسوأ الأحوال، مما يرافق نمو الديموقراطية وانبثاقها من تحت ركام الديكتاتورية وانقاضها.

نعم. الحذر واجب في هذه اللحظات الحساسة. لكنها في الوقت ذاته لحظات تأسيسية لممارسة ديموقراطية لا مفر من مرورها في عدد من الطرق الإجبارية الوعرة. المهم أن تتابع السير والتقدم.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى