صفحات الناس

سورية الراعفة وثقافة التسامح/ جمال شحيّد

 

 

في خضمّ الأحداث المأساوية التي عرفتها سورية خلال السنوات الست الماضية، وفي استمرار الضباب والغموض اللذين يخيمان على مصير البلاد، وفي أجواء التشاحن والاصطفاف والتجييش والإقصاء التي ابتلي بها معظم السوريين، لا بد من البحث عن مخرج ومن طيّ صفحة التهديد والحقد والانتقام، كي يستطيع الـ24 مليون سوري أن يتعايشوا معاً بالرغم من كل ما حدث.

ولا أجد في تاريخ الشعوب إلا مقولة التسامح والمغفرة كحل لإنهاء الصراع وخلق سورية جديدة لجميع السوريين والسوريات، مسترشداً ببعض الأفكار التي ساقها جاك ديريدا وبرغسون وريكور وغيرهم من مفكري العصر، ومتوقفاً عند بعض الأمثلة في تاريخ الشعوب التي استطاعت أن تقلب صفحة المآسي وتنهض من جديد.

من وقت لآخر، يطالعنا زعيم سياسي أو ديني بطلب المغفرة والصفح من الطرف الذي ارتكب بحقه عدداً من الجرائم المروّعة. ففي 19 تموز/ يوليو 2015 اعتذر مدير شركة ميتسوبيشي من أسرى الحرب الأميركيين الذين عوملوا معاملة لاإنسانية ووحشية أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي عام 2010، طلب وزير الخارجية الياباني المغفرة من أهالي الـ70.000 أسير أميركي الذين أسرهم الجيش الياباني عام 1942، وعام 2015 اعتذر رئيس الوزراء الياباني من الصين وكوريا والفيليبين عن الجرائم الجنسية التي ارتكبها الجنود اليابانيون في النصف الأول من القرن العشرين بحق أكثر من مئتي ألف فتاة (ومعظمهن كنّ قاصرات).

وتكرر اعتذار البابوات في الفاتيكان، خلال العقدين الماضيين، عن الأخطاء التي ارتكبت في الماضي بحق النساء واليهود وغاليليو والبروتستانت وهنود أميركا، واعتذروا عن محاكم التفتيش والحروب الصليبية والانشقاق بين الأرثوذكس والكاثوليك، واعتذروا عن تجارة العبيد التي مارسها المستعمرون الكاثوليك. واعتذر أساقفة فرنسا الكاثوليك عن السلوك اللاسامي الذي مارسه عدد من الكاثوليك إبان الحرب العالمية الثانية.

أمام الأمثلة العديدة لطلب الغفران في العقود الماضية، التي أوردتُ بعضَها تمثيلاً لا حصراً، لا بد من التوقّف قليلاً عند مصطلح المسامحة الذي حلله كلّ من ديريدا وبرغسون وريكور وجانكيليفتش وحنة أردنت. مقولة “المسامح كريم” واردة في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، كما أنها واردة عند بعض الدول التي كانت متحاربة ثم أصبحت صديقة، كما هو الحال بين فرنسا وألمانيا الآن.

في محاكمة الزعماء النازيين في نورمبرغ، ظهرت عبارة “جريمة ضد الإنسانية”، وبُني عليها كثيراً في الأدبيات السياسية المعاصرة، على أنها جرائم حرب لا تغتفر. ومع ذلك يصرّ فيلسوف مثل ديريدا، في نصين لافتين له “قرن المسامحة” (1999) و”المغفرة: ما لا يُغتفَر وما لا يُسقط مع مرور الزمن” (2004)، يقول: لا توجد مغفرة إلا إذا وجدت جرائم لا تغتفر؛ ويسعى كثيرون إلى طمس هذه الجرائم. وينادي ديريدا بالمغفرة لوجه الله (دون مقابل)، وبالمغفرة المطلقة ودون شروط. وهذه المغفرة تشمل المجرم وضحيته. واعتمدت بعض المجتمعات هذا النوع من المغفرة، كما حصل في الجزائر في ما سمّي بـ”الوئام” الوطني أو بتصفية القلوب، بعد صدور قانون العفو العام الذي ضرب صفحاً عن جميع الجرائم المروعة التي اقترفها الأصوليون المسلمون بحق السكان.

يتكلم بعضهم عن “مصالحة” سياسية بين الدولة ومن حمل السلاح عليها فتفرض عليهم هذه الأخيرة شروط تهجير يضطرون إلى القبول بها. وهذا النوع من المصالحات هو “إذعان” وقبول قسري بشروط الدولة المهجِّرة. في حين أن المسامحة والغفران لا يصدران إلا عن نفس نبيلة وقوية. وهذا ما حصل مثلاً مع رهبنة الرهبان الترابيست الذين قتلهم المتشددون الجزائريون في بلدة “تبهرين”. وهذا ما تمّ في جنوب أفريقيا مع نيلسون مانديلا (1918-2013).

حاولت سلطات الفصل العنصري (الأبارتهايد) أن تحدّ من تأثيره في الناس والدفاع في المحاكم عن قضايا السود، فمنعته كمحام من المرافعة في محاكم العاصمة جوهانسبرغ، ثم سجنته عام 1962 وحكمت عليه بالأشغال الشاقة (خياطة أكياس الخيش المستعملة في الطرود البريدية)، وحلّت حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ANC الذي أسسه. وبسبب حملات التأييد العالمية للإفراج عنه اضطرت حكومة الأبارتهايد إلى إطلاق سبيله عام 1990 (بعد 27 سنة من الاعتقال)، فنادى مانديلا بإنشاء دولة ديمقراطية في جنوب أفريقيا لا تميّز بين السود (الأكثرية) والبيض (الأقلية). ونادى بثقافة الحوار والتصالح والمغفرة وطي صفحة التمييز العنصري. فأصبح مانديلا من كبار دعاة المقاومة السلمية في العالم والمناداة بتجنب العنف، على غرار المهاتما غاندي. وبتأثير من فكر الأوبنتو ubuntu الإنسانوي الذي نشره رئيس أساقفة البلاد ديسموند توتو، طور مانديلا قيم الاحترام والمساعدة والكرم والثقة والتجرد مكرراً مقولة الزولو الشهيرة “الفرد فرد بسبب الأفراد الآخرين” و”إنسانيتي مرتبطة ارتباطاً لا ينفصم بإنسانيتك”. وكان يكرّر كثيراً هذه العبارة: “لا تنسوا عظمة أمة نجحت في تجاوز انقساماتها”، “لا يستطيع أحد أن يعيش بسلام ما دام هناك أناس يتضورون جوعاً ويعيشون تحت شبح الخوف وعدم الأمان”. وأصبح مانديلا رئيساً للجمهورية من عام 1995 حتى 1999. ونال جائزة نوبل للسلام عام 1993، هو القائل: “كرستُ حياتي كلها للدفاع عن الشعب الأفريقي. لقد قاتلتُ سيطرة البيض وسيطرة السود أيضاً. وتطلعت إلى مجتمع حر وديمقراطي يعيش فيه جميع الناس بوئام وبفرص متساوية. عشتُ وعملتُ من أجل تحقيق هذا الهدف، وأنا مستعد أن أموت من أجله إذا لزم الأمر”.

والمثال الآخر الذي سأسوقه عن المسامحة مأخوذ من تاريخ اليونان القديمة، وتحديداً من الأزمة السياسية الناجمة عن احتلال إسبرطة لأثينا، وهي ما عُرفت بحرب البيلوبونيز (431-404). بعد وفاة القائد الأثيني العبقري بيريكليس عام 429 الذي أرسى قيم الجمهورية والديمقراطية، تضعضعت أثينا أمام القوة العسكرية الهائلة لإسبرطة التي فرضت حكم الثلاثين طاغية على أثينا [عاش ثمانية أشهر فقط]. وبعد عودة الجمهورية واستلام أرخينوس دفة الحكم أصدر أمراً بمنع “استذكار الماضي” وأجرى مصالحة بين الأثينيين، ولا سيما أن بعضاً منهم لعبوا ورقة إسبرطة ضد أثينا. ونجحت أثينا في استعادة نظامها الجمهوري والديمقراطي، بعد أزمة دامت 27 سنة. وكتب المؤرخ ثوكيذيذيس كتاباً مهماً عن هذه الحرب، كما كتب أرسطو كتابه الشهير “دستور الأثينيين” في أعقاب هذه الحرب، لترسيخ الدستور الذي سيحفظ النظام الديمقراطي.

لا تستطيع سورية أن تخرج من محنتها بقوة السلاح بل بقوة المسامحة الرشيدة. والمقصود بهذه المسامحة إعادة اللحمة والوئام في أوساط السوريين، وبشتى مشاربهم، ومحاكمة الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية والذين تلطخت أيديهم بدماء السوريين، من جميع الفرقاء. كفانا دماً، كفانا دماراً، كفانا بؤساً، والمسامح كريم ونبيل.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى