صفحات العالم

سورية: الصراع على المستقبل


نصار إبراهيم

الهدف كسر نموذج التناغم بين الدور القومي المقاوم والتغيير الديمقراطي الأصيل

منذ اللحظة التي اتخذت فيها جامعة الدول العربية قرارها بتعليق عضوية سورية، واستتبعتها بسلسلة العقوبات ضد الشعب السوري، انتقلت المواجهة إلى مستوى شديد الوضوح، بحيث لم يعد مقبولا أو مفهوما معه مواصلة اللعب في المنطقة الرمادية باسم الديبلوماسية، لقد دخل الصدام مرحلة الحسم الاستراتيجي على مختلف المستويات.

في ظل هذا التطور النوعي فإن مَن لا يدرك خصائص وأدوار الأقاليم عبر التاريخ، ومن يتصرف بخفة وحماقة مع الأحداث، ومن لا يمتلك الخيال المناسب لقراءة أبعاد الصراع وخطورة الخيارات سيجد نفسه، بوعي أو بدونه، غارقا في مشاريع التدمير والهيمنة الاستعمارية على المنطقة.

لقد أسقطت سخونة المواجهة في سورية وانكشاف الأهداف مختلف أنواع الأقنعة، ومعها انكشفت وسقطت الشعارات البراقة التي توسلت الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كرأس جسر لاقتحام سورية ومصادرة دورها وكسر إرادة الشعب السوري الذي احتل مكانته باقتدار في التاريخ العربي والتجربة الإنسانية، مكانة أين منها دعاة “حقوق الإنسان، والحرية والديمقراطية” وموظفو “شركة المقاولات الأمريكية – الفرنسية – القطرية للثورات”، الذين يستجدون اليوم تدخل حلف الناتو لتدمير سورية تحت يافطة “حماية المدنيين والمناطق العازلة” فيما يعلنون في غمرة اليأس عن استعدادهم، في حال نجاح مشروعهم، بأنهم سيفكون الارتباط مع إيران والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وسيقيمون أفضل العلاقات مع إسرائيل.

لقد شاء القدر والتاريخ أن تكون سوريا، بموقعها ومكانتها ودورها ونموذجها، حجر الرحى الذي تتشابك عليه المواجهات التي سيتحدد في ضوء نتائجها مصير الأمة العربية لعقود قادمة، بل وأكثر من ذلك مصائر عدد من المواجهات الإقليمية والعالمية التي تحتدم على أكثر من محور.

لقد كان الرهان أن يتقدم المشروع الأمريكي وأن يترسخ بصورة متدرجة في المنطقة وفي العالم، وذلك ترجمة لشعار “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر، فجاء احتلال أفغانستان ثم سقوط بغداد عام 2003، ثم الحرب على لبنان عام 2006، وبعدها الحرب على غزة نهاية عام 2008، غير أن محور المقاومة والممانعة تمكن من وقف هذا المسلسل المدمر وبدأت معالم الفشل والتراجع تلاحق ذلك المشروع على أكثر من صعيد وفي أكثر من ساحة، وفيما كانت الولايات المتحدة تحاول أن توقف مسلسل إخفاقاتها، جاءت مفاجأة سقوط نظام زين العابدين بن على في تونس، ثم سقوط نظام حسني مبارك في مصر ثم اندلاع حركات التغيير في أكثر من بلد عربي لتخلط الأوراق وتربك المعادلات، الأمر الذي فرض على الحلف الأمريكي – الرجعي التحرك السريع لإعادة صياغة استراتيجياته وسياساته بهدف احتواء عملية التغيير والسيطرة عليها، خاصة مع اتضاح خطورة الهزيمة التي تعرضت لها الولايات المتحدة في بلاد الرافدين وانسحابها بعد تسع سنوات من الحرب تحت وقع ضربات المقاومة العراقية مثقلة بما يقارب خمسة آلاف قتيل وثلاثة تريليونات دولار هي كلفة حربها العدوانية على العراق.

في ضوء هذه الحقائق لم يعد أمام الحلف الأمريكي – الرجعي سوى خوض المواجهة بصورة مباشرة ونهائية، وجرى التخلي عن كل أشكال المناورة والتمويه التي كانت تتيحها حالة الالتباس والرهانات الخاطئة وفائض القوة التي كان يملكها هذا الحلف فيما مضى، وعليه صدرت التوجيهات المباشرة إلى الرجعيات العربية بضرورة التحرك السافر والانخراط العلني في عملية تحطيم الحلقة السورية كنوع من تعويض ومحاولة لوقف مسلسل التراجع، فالمواجهة لم تعد تحتمل اللعب أو مراعاة الخواطر والمظاهر.

انطلاقا من هذا الواقع وهذه الأهداف اندفع الحلف الإمبريالي – الرجعي ضد سورية بسرعة وعنف وفق مسارين؛ الأول الضغط وبكل قوة لإسقاط سورية بقوة الصدمة والمباغتة وذلك عبر حرب سياسية إعلامية نفسية شاملة وصولا إلى تدويل الأزمة و تشريع التدخل الخارجي (على غرار النموذج الليبي) وبهذا يتم إسقاط القلعة السورية وإلحاقها بالحلف المعادي وتحويلها إلى دولة تابعة مثلها مثل غيرها من الأنظمة الرجعية العربية التي تدور في فلك الحلف الكولونيالي الغربي، وفي حال عدم نجاح هذا السيناريو جرت التهيئة لسيناريو بديل وهو إغراق سورية في مستنقع التدمير والاستنزاف الذاتي كدولة ومجتمع وتحطيم مكتسباتها التاريخية ودورها الإقليمي والدولي، وإشغالها بذاتها وتمزيق نسيجها الاجتماعي وما تمثله كنموذج للاندماج الاجتماعي والديني، وذلك عبر تأجيج نار العنف الطائفي واحتضان التنظيمات والمجموعات الإرهابية المتطرفة وتسليحها وتدريبها وتوجيهها لاستنزاف بنى ومؤسسات الدولة وتعطيلها.

من هنا يمكن إدراك أبعاد قرار ومواقف القوى والأطراف والدول المنخرطة في هذا الصراع منذ شهور بخلع القفازات والنزول إلى ميدان المواجهة بوضوح وكأنها ذاهبة للمواجهة أو المنازلة النهائية، حيث انتظمت قوى الصراع على جبهتين حاسمتين: الأولى وتشمل الولايات المتحدة، إسرائيل، الدول الأوروبية الغربية، الرجعيات العربية ممثلة بمجلس التعاون الخليجي كرأس حربة عربي، وتركيا الباحثة عن دور مفقود، والقوى الاجتماعية الرجعية، وعلى الجبهة المقابلة تصطف: سورية كشعب بما في ذلك قوى التغيير الأصيلة والدولة (بالرغم من أي نقد وتقييم يمكن تسجيله على تجربة النظام السوري على كل المستويات)، بالإضافة إلى قوى المقاومة والممانعة السياسية والشعبية والثقافية العربية وخاصة في لبنان وفلسطين، ومع هؤلاء تقف الجزائر، إيران، مسنودة بجبهة عالمية تشمل روسيا والصين، والدول التي تناضل من أجل إعادة صياغة العلاقات الدولية على أسس أكثر عدالة واحتراما بما يتخطى المعادلات التي تأسست على نتائج الحرب العالمية الثانية وأحادية القطبية التي ترتبت على سقوط الاتحاد السوفييتي نهاية ثمانينات القرن الماضي، وهذا يشمل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل وفنزويلا، ومعظم دول أمريكا اللاتينية.

إذن ما يجري في سوريا الآن يعكس خطورة الصدام بين إستراتيجية الهيمنة والتبعية و”الشرق الأوسط الجديد” وفق الرؤية الأمريكية – الإسرائيلية وإستراتيجية المقاومة والممانعة والتغيير الديمقراطي الاجتماعي الأصيل.

هذا الصدام الاستراتيجي يتحرك على ثلاثة مستويات متشابكة ومتداخلة:

المستوى الأول: المجابهة بين قوى المقاومة والممانعة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية من جانب، والمشروع الصهيوني بكل أبعاده وأهدافه من جانب آخر.

نتائج الصراع على هذا المستوى ستقرر مستقبل ومصير القضية الفلسطينية، فإما أن تتخطى المأزق الذي ترتب على مشروع أوسلو باعتباره مشروع الانحطاط العربي وانكفاء المقاومة، الأمر الذي يعني استعادة المبادرة والحفاظ على الحقوق والثوابت الفلسطينية ودحر المشروع الصهيوني بالمعنى الاستراتيجي تمهيدا لهزيمته، وإما أن يتحطم محور المقاومة الأمر الذي يعني انتصار المشروع الصهيوني وشطب القضية والحقوق الفلسطينية.

المستوى الثاني: المجابهة ببعدها العالمي بين المحور الكولونيالي الأمريكي – الأوروبي الذي يستهدف الهيمنة على المنطقة مدعوما بقوى الرجعية العربية وتركيا كرأس حربة تنفيذية، يواجهه المحور الروسي الصيني المدعوم من القوى الدولية الصاعدة في العالم، مثل إيران ودول بريكس ومعظم دول أمريكا اللاتينية.

هذا المستوى من المجابهة سيحدد معالم التوازنات الدولية الجديدة، بمعنى استعادة التوازن وكسر حلقة الهيمنة الأمريكية واستعادة الدور الروسي – الصيني الوازن بكل ما يترتب على ذلك من إعادة صياغة العلاقات الدولية بما في ذلك دور مؤسسات الأمم المتحدة التي بدت عاجزة ومصادرة من قبل الولايات المتحدة في العقدين الماضيين، أو ستتمكن الولايات المتحدة من خلال كسر الحاقة السورية من تعويض انكفائها وهزائمها في المنطقة، الأمر الذي سيشكل فرصة لها لإعادة ترتيب المنطقة وفق مصالحها واستراتيجياتها.

المستوى الثالث: المجابهة على المستوى السياسي الاجتماعي الأيديولوجي بين مشروع القوى الدينية الرجعية والسلفية بكل تشابكاته وحوامله الاجتماعية والمشروع القومي العروبي التقدمي العلماني الديمقراطي بكل تشابكاته وحوامله الاجتماعية.

هذا المستوى سيحدد مضمون عملية التغيير في المنطقة وفي المجتمعات العربية على أكثر من صعيد، فإما أن تتجه عملية التغيير نحو حالة من التراجع مما يقود إلى قيام نظم رجعية جديدة تحكم باسم الدين الأمر الذي سيضع حدا حاسما لعملية التغيير الديمقراطي بمضامينها وتجلياتها القومية التقدمية، وبهذا يكون الحلف الكولونيالي الرجعي قد تمكن من احتواء حالة الحراك العربي وامتلاك زمام المبادرة، وفي ضوء ذلك إعادة ترميم وإحياء المشروع الديمقراطي الكولونيالي الغربي من جديد بعد أن بدأ يتفكك مع بداية التحول في تونس ومصر، وإما أن يشكل نموذج التغيير في سوريا قوة دافعة جديدة مما سيمهد لاستمرار عملية التحول الديمقراطي الاجتماعي السياسي في المجتمعات العربية لتكون عملية أصيلة وعميقة وهو ما يفتح الأفق لخروج الأمة العربية من حالة التبعية والتمزق والتقدم لكي تأخذ مكانتها ودورها اللائق على المستوى العالمي.

إذن، الصراع الدائر في سورية وعلى سورية ليس مجرد صراع يستهدف معاقبتها على مواقفها السابقة، بل هو في الجوهر صراع لحسم من سيحتل مساحة المستقبل فيها وفي المنطقة، بهذا المعنى تتخطى المواجهة القراءات والمقاربات الضيقة، وعليه فإن خروج سورية من هذه المحنة منتصرة لا يقتصر على نجاحها في كسر حلقة التدخلات الاستعمارية الرجعية الخارجية والحفاظ على النظام، على أهمية ذلك، بل إن الانتصار كمضمون بات مشروطا بضرورة إنجاز الإصلاح والتغيير بصورة عميقة وجذرية بحيث تشمل مختلف جوانب المجتمع السوري، وهي بهذا المعنى باتت عملية شاملة للبنى والثقافة والمؤسسات والنظام، بحيث تنتهي بإطلاق فعالية المجتمع السوري بطاقته القصوى وعلى كل المستويات، لقد برهن الشعب السوري بوعيه وحسه العالي في اللحظات الحاسمة والصعبة أنه شعب أكبر من الجميع، وكان سلوكه وأداؤه المفاجأة الكبرى لمن راهن على اختراقه وإسقاطه بمجرد مداعبة خياله ببعض الشعارات.

لقد بين الصراع والصدام الجاري في سورية وكشف بصورة نهائية أن ما تسعى إليه وتستهدفه القوى الاستعمارية والرجعية لا يقتصر على ضرب وتحطيم دور سورية القومي المقاوم أو معاقبتها على سياساتها الممانعة في السنوات الماضية، بل إن الهدف الأعمق الذي يسعى إليه الحلف الكولونيالي – الرجعي هو منع سورية من بناء نموذج ديمقراطي يقوم على التناغم بين الدور القومي المقاوم والتقدمي والتغيير الديمقراطي الاجتماعي الأصيل في مواجهة المشروع “الديمقراطي الكولونيالي” الغربي بكل ما يعنيه من تبعية وارتهان، وهو ما يشكل جوهر إستراتيجية احتواء الثورات العربية وحرفها والسيطرة عليها وإبقائها تحت سقف الرؤية الأمريكية – الغربية بعد أن عجزت عن حماية حلفائها العرب وفق أشكال الحكم السابقة، هذه الحقيقة هي التي تفسر وتوضح الإزاحات وإعادة تموضع قوى الإسلام السياسي وخاصة حركة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية التي وصلت إلى السلطة في تونس وليبيا ومصر، واتجاهها لمد الجسور مع الولايات المتحدة تمهيدا لبناء معالم التحالف الجديد في المنطقة الأمر الذي سيشكل شبكة أمان وحماية لمصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل في العقود القادمة في مواجهة قوى المقاومة والممانعة وقوى التغيير التقدمية.

إذن هي المواجهة التي لا تحتمل الحياد أو الخطاب الغامض، وبالتالي فإن واجب قوى المقاومة والتغيير الديمقراطي الأصيل بكل مكوناتها أن تتحرك على امتداد العالم العربي لكي تأخذ مكانها وتقوم بدورها لكي تحمي سورية كشرط لحماية مستقبل هذه الأمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى