صفحات العالم

سورية المتبدلة أم سورية البديلة؟/ أحمد جابر

 

 

هل ما زالت سورية اسم علم؟ أي هل ما زالت إسماً دالاً على مدلول بلا التباس ولا شرح اضطراري، أو ملاحق تفسيرية لتعيين اسمها؟ أغلب الظن، ولربما مع أكثر المعطيات، أن سورية التي عرفت كوطن بلا إضافات تعريفية، باتت الآن موزعة على أسماء «نكرة»، كل اسم منها في حاجة إلى «أل» التعريف المجتمعية والأهلية والجغرافية، وإلى أل التعريف الرسمية والمؤسساتية، وإلى مآلات مستوياتها المصيرية، التي بات جلَّها خارج الحدود الوطنية السورية المعروفة.

لم يكن اسم العلم السوري ناجزاً، لكنه كان مؤطراً ومحدد المعالم، وكان العلم به شديد الوطأة وكثيف الحضور، وكانت تجليات الوطأة والوجود كثيفة في الداخل الوطني السوري، وحاضرة، على وجوه تتباين في شدَّتها، في أكثر من بلد شقيق، ومع أكثر من بلدٍ صديق.

اشتركت سورية المعلومة، مع أوطان عربية أخرى عدة في طريقة صياغة العلم بها. قولبت مجتمعها ونمطته، وأبّدت نظامها وقدّسته، وراقبت بعيون يقظة وبقبضات عارية ومموهة، حلم الإصلاح والتغيير ووأدته. سورية فعلت ذلك على هوى من استتبعها، أرضاً وبشراً، ولم تكن علامة فارقة ضمن مداها العربي، فلقد كان لها أنداد مارسوا كل ما مارسته، ودائماً وفق المزاج والرؤيوية السلطوية والأهواء.

لقد صيغ الثبات السوري في الجمود، مثلما صيغ الثبات العربي عموماً. أقصيت السياسة، وطرد المجتمع من ذاته، وخلت الساحات إلا من التهليل، وما عاد للأخلاق من أسماء سوى مسميات فضيلة الطاعة، وحسن الانقياد وآداب اصطناع السلوك. كل ما عدا ذلك، كان تطلباً زائداً، وكل ما زاد على حده، انقلب عربياً إلى ضده، عملاً بالقول المأثور… وما السائد ثقافة المنقول والمأثور.

هكذا استـــدعـــت مطالب الحرية والعدالة والمواطنية، والديموقراطية العقد الاجتماعي الجديد، وما سوى ذلك، استدعت كلها أضدادها، وما توسَّم فيه الخلق المأزوم والمقيد تباشير ربيع، انقلب في سورية وعند أشباهها، إلى بركان ما زال يقذف حممه، وإلى خراب ما زالت أياديه الملوثة تعبث في البلاد قتلاً ودماراً، وتجعل من كل لحظة معاشة، خطوة تراكم على طريق أسئلة المجهول، الذي يطاول الحاضر والمصير.

وإذا كان الموقف في سورية القديمة معلوماً، فإن المواقف من سورية الراهنة باتت بحاجة إلى استقراء واقعي جديد، وإلى معطيات حديثة تساعد على قول رأي في سورية التي صارت ماضياً، وفي سورية الأخرى التي ما زالت قيد الاحتمال.

لا يملك أحد الحجج الكافية للقول، لقد انتهى الزمن السوري، بما هو كل المكونات التي كان يتشكل منها هذا الزمن، ربما كان الأقرب إلى الواقعية القول، أنه لا يمكن التعرف الى الزمن السوري، بالاستناد إلى كل العناصر الذي جعلته زمناً جغرافياً واجتماعياً وسياسياً، له مراجعه المعروفة وله لغة قراءته، بالفصحى وبكل اللهجات المحكية المحلية. بناءً عليه، لا بد أن الأرض مادت بالمواقف السياسية الأولى، قديمها المتعلق بالموقف من النظام السوري، وحديثها الذي أعلن في مناسبة اندلاع التحركات الشعبية ضد هذا النظام. في المكانين، أي في مكان النظام وفي مكان خصومه، ما عادت الأوصاف السابقة ملائمة، بل هي اكتسبت مزيداً من الرداءة أضيفت إلى رداءة النظام الأصلية، وأزيحت صفات حميدة من دفتر المعارضات الأهلية، وحلَّ محلها وحشية فائقة، قارعت أساسيات النظام المتخلفة مجتمعياً وأخلاقياً، بما يماثلها من انحطاط وبما يشبهها من تخلف مدمر وخطير.

مع تطور الأوضاع الميدانية هذه، باتت المواقف الأولى التي رافقت أول «ضربة كف» من قبل النظام لشعبه، مواقف مبدئية لا تحيل إلى مهمة عملية مباشرة، ولا تستدعي حشد تأييد لها، بسبب من أحقيتها أو أخلاقيتها، أو مخاطبتها للمستقبل المفهوم والمعلوم.

في المواقف الأولى، قامت سياسة مؤيدي النظام على شعارية الوطنية والمقاومة، والصمود في وجه محاولات فرض التنازلات على سورية…، ونهضت سياسة داعمي الحركة الشعبية على ما يمكن تلخيصه في حق الشعب السوري في ما يصبو إليه من تطلعات… لكن ما هي حقيقة الصورة الآن؟ صار النظام السوري خارج ما افترض له من مسوغات لتأييده. هو فعل ذلك، أي هو خرج من شعاريته إلى حقيقة سياساته.

كذلك صارت الحركة الشعبية معارضات، بعد أن كانت تجمعات، وارتدَّت هي الأخرى على فرضية ما ادعته لذاتها، أو ما نسبه إليها الآخرون من أبعاد، وتقهقرت إلى الانشطار الذي كان كامناً في بيئتها، فلما رفع عن البيئة سيف القسر، اشرأبت كل أعناق الموروثات.

ما الذي يبقى؟ إدامة النظر إلى الوضع السوري؟ نعم، لكن بمقاربات أخرى لا ضير لو ظلت مشدودة إلى أخلاقياتها الأولى، لكن كل الضير في عدم قراءة كل المستجدات.

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى