رستم محمودصفحات سورية

سورية المحطمة وسبعة عقود من البعث/ رستم محمود

 

 

في إطار البحث عن أحوال حزب البعث في الذكرى التاسعة والستين لتأسيسه، في مزيج من البحث عن التسلية والفكاهة والتفكير بآلام المصائر، يمر معك سريعاً عدد من برقيات التعزية التي تلقاها أحد «قادة» البعث المُخضرمين عبد الله الأحمر بوفاة أخيه قبل أسابيع.

هذه البرقيات كانت مُرسلة من فروع حزب البعث في مُختلف الدول العربية، وكانت تشيد بدور وأهمية حزب البعث والرفيق الأحمر في النضال القومي على مستوى الأمة!، لم تنتبه بتاتاً إلى أن الرفيق الأحمر لا يستطيع دخول بلدته المُحاصرة، التل، التي تقع على مرمى حجر من مقره، شمال العاصمة دمشق، وحيث أهلها – أهله! – يواجهون مجاعة فظيعة نتيجة هذا الحِصار، الذي يُمارسه نِظام الأسد، المقدود من حزب البعث نفسه.

ليست تلك المُفارقة خاصة بحزب البعث فحسب، وهو الذي عاش مواته بالتقادم مُنذ انقلاب «نُخبة عسكر الأقليات» على قيادة البعث المدنية/ الأيديولوجية عام 1966، بل هي تمس الكثير من تفاصيل وعموم حياة السوريين، حيث أن هذه المُفارقات القاسية على حاضر ومستقبل السوريين، لا تحتل حيزاً واسعاً منها إلا نتيجة لهيمنة خِطاب وخيارات ومنطق حزب البعث على مؤسسات الحُكم والحياة العامة لسورية والسوريين. ولئن لم تكن نُخبة البعث العُليا الحاكمة الفعليّة لسورية، إلا أن منطق البعث كان حاضراً وحيوياً على الدوام.

والآن هناك أربع عصبيات، عربية، وكردية، وسنية، وعلوية) تُمزق عيش السوريين راهناً، وهي شديدة القسوة على المنتمين إليها، وقابلة للعسكرة واستخدام العُنف، وفاقدة لأية نزعة تحررية أو روحية ذات بُعد «كوني» أو إنساني. أربع عصبيات مُطابقة لمنطق البعث بكل حذافيره، غارقة في خطاب الأخوة والعلمانية والديموقراطية والوطنية والأمة، بينما تُمارس فعلياً فظاعة التنازع اليومي والجزئي على الحارات والحواكير، وتسعى إلى أقصى درجة من التحاصص والتقاسم، من دون أي اعتبار لفكرة العيش المشترك.

أربع عصبيات متآلفة و»موالية» لما هو خارج سورية وعابر لها، أكثر بما لا يُقارن مما يربطها بسورية. فهي لا ترى فيها كياناً فاشلاً فحسب، بل مجرد «محظية»، إما أن تكون لأحدهم بالكامل، أو أن يسعى جاهداً لتمزيقها وتحطيمها بالكامل، وبالذات مثلما فعل «شبل» البعث، بعد قُرابة نصف قرن من حُكم عائلته لسورية.

فسورية «المحظية» ليست مجرد حالة طارئة لهذه العصبيات التي فرزتها سنوات البعث، بل هي بالذات أيديولوجيات ورؤى ورسالة خالدة في خبيئة المدافعين عنها، تماماً كما كانت رسالة البعث الخالدة، في تحويل شعب وكيانات سيطرتها أدواتٍ لبعث «أمة العرب» في المُخيلة البعثية، أياً كانت الأثمان الموجعة التي على سُكان هذه الكيانات البعثية أن يدفعوها من حاضرهم ومستقبلهم.

كذلك غدت سورية «ملعباً» مفتوحاً تماماً، ومن المتوقع أن تبقى كذلك لسنوات وربما عقود، ملعباً ممزق الأوصال بمدنه وأقاليمه وهوياته التي باتت «ثقيلة» على أية إمكانية لإعادة تآلف الكيان السوري مع نفسه.

يحدث ذلك بالتخالف، والتطابق في آن، مع ما كانت سورية البعثية/الأسدية قد فعلته بسورية، حين حولتها إلى لاعب/أخطبوط، مُتدخل في كُل شؤون دول جواره ومُحيطه الإقليمي، بما يتجاوز أي توازن طبيعي بين البلد وإمكانياته وديموغرافيته وموارده الطبيعية البسيطة. كذلك كانت الأسدية قد حولت المُجتمعات السورية الداخلية أدوات في هيمنتها الغولية على محيطها الجغرافي الإقليمي، حتى باتت كل الدول الإقليمية تستغل هذا التحول في الوضع السوري، لتنتزع حصتها من الهيمنة على سورية نفسها.

فلأكثر من سبعين عاماً لم يسع البعث سوى إلى تمتين تلك النزعات الأهلية وبناء سوء التفاهم والخشية المُتبادلة بينها، مانعاً عنها أية قُدرة على التآلف مع المواطنة السورية المتساوية. لذا ففي لحظة الاستثناء السوري الراهنة، غدت هذه الجماعات السورية أدوات للخارج من أجل الهيمنة على الداخل السوري.

في سورية الراهنة ثمة أيضاً شبح التقسيم أكثر من أي وقت مضى، ولن يكون تقسيماً بالمعنى «الحضاري» لفكرة تآلف الجماعات والأقاليم، أو انفصامها عن بعضها بتوافق ومن دون عُنف. فسورية مُهددة بتقسيم أقرب للتمزيق والصوملة، تُدمر معها مُدن عُمرها آلاف السنين، وتُقتلع مُجتمعات وتُحطم جماعات وحساسيات. وسورية القابلة للتمزيق راهناً، ليست إلا تتويجاً للنظرة البعثية القديمة إليها، إذ اعتبرتها «قُطراً» وقطرة في بحر الأمة!، أي مسخاً لا يستحق الاهتمام والولاء.

فسورية القابلة للتمزيق هي التتويج الفعلي والموضوعي لفكرة البعثية القومية الجوهرية، التي تم تبنيها في لحظة كان العالم معها في أوج آلامه من تبعات أيديولوجيات النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، التي كانت الأب الروحي للنزعة البعثية.

لكنْ بعد سبعة عقود من هذه التجربة البعثية الأليمة، يبدو كأن ما من سوري قد اتعظ. وما زالت الحساسية السياسية السورية في وجهتها الأعرض تعتبر أن الكيانات ونِظام الحُكم وهوية البلاد وشكل العلاقة مع الخارج واسم الكيان هي الجوهر الذي يجب الاعتداد به، بينما ملايين السوريين مُجرد أدوات وعابرين لا يُهتم بأمرهم قياساً بتلك العصبيات الأربع وما يترتب عليها.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى