بشير البكرصفحات مميزة

سورية بلا سوريين/ بشير البكر

 

 

بات محرجاً من الناحية الأخلاقية اشتقاق توصيف دقيق لعملية الهروب الجماعي من بطش النظام في سورية. وسائل الإعلام العالمية تتحدث عن حالة نزوح، لكن هذا التعبير يبدو تقنياً، ولا يمكنه أن يلم بكل أوجه الحالة الكارثية غير المسبوقة. تجاوزت مشاهد هروب السوريين من بلدهم، في بعديها المباشر والرمزي، كل ما سبقها من حالات شبيهة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولم يسجل التاريخ أن حاكم البلد وطغمته أجبروا الغالبية العظمى من الشعب على الجلاء من بيوتها، للنجاة بالنفس من القتل، أو بسبب تعذّر أسباب الحياة، وباعتبار أن هؤلاء البشر يرحلون نحو المجهول، ومصيرهم محفوف بالمخاطر، فإن الأمر يستدعي قدراً كبيراً من اليأس والشجاعة.

باتت هذه الجموع التي بدأت في الأسابيع الأخيرة تتدفق نحو الخارج، بوتيرة يرتفع منسوبها كل يوم، يائسةً من إمكانية أي حل، يمكّنها من حياة داخل البلد بلا قتل، مهما كانت طبيعة هذا الحل، وصارت لا تصدّق الوعود والخطط والمؤتمرات الدولية، ولا تعوّل على أحد، لا المجتمع الدولي ولا المعارضة السورية، وهي لا تطمح لشيء في الوقت الراهن سوى النجاة من المجازر المتنقلة التي يرتكبها الأسد. وحتى هذا الطموح غير مضمون العواقب، وكل من يقرر الهرب يعرف، قبل كل شيء، أن احتمالات وصوله إلى الضفة الأخرى لا تزيد عن خمسين في المائة، ومن يتصرف على هذا النحو يفعل ذلك، لأنه على قناعة بأن بقاءه في مكانه يعني أنه سيموت، بينما يضعه الهرب بين الحياة والموت.

ومهما كانت النتائج المترتبة على مغامرة السوري، لا يمكن بأي حال إلا تقدير هذا الضرب من الشجاعة الجماعية، فهي تكاد تكون علامة الحياة الباقية لدى هذا الشعب الذي تخلى عنه العالم، وأدار ظهره له، وتركه فريسة وسط غابة من المجرمين المحترفين. هذا الشعب الذي ثار من أجل الكرامة والحرية يعرف، اليوم، أن طريق الهرب الذي يسلكه هو الباقي والمتاح أمامه، بعد أن فقد الأمل بإمكانية حصول معجزةٍ دوليةٍ، توقف حرب الإبادة التي يقوم بها نظام الأسد. انتظر أكثر من أربعة أعوام، ولم يتحرك الموقف الدولي والأمم المتحدة، لوقف المذبحة، لا بل غض الطرف عن إيران وروسيا شريكين في تمويل المجرم وتسليحه.

من يأسٍ وشجاعة، يرحل السوريون، ويتركون خلفهم كل ما يخصهم، وحتى لو غرق نصفهم في البحار، فهم يدركون أن أعمارهم أطول من عمر النظام. وباتوا على قناعةٍ بأن عليهم أن يدفعوا الثمن وحدهم، وكما صمدوا نصف قرن في ظل ديكتاتورية الحكم العسكري الطائفي، وثاروا عليه، فإنهم اليوم يعيشون معركة البقاء على قيد الحياة. لا يسافر السوريون في رحلة تيه، بل هم يعبرون إلى ضفة أخرى، وكل من يغامر اليوم بالوصول إلى أرض مؤقتة، فإنه يصل إلى استعادة الذات، طالما أنه لم ينحن لعقوبة القتل التي فرضها الأسد على كل من جهر بالحرية من السوريين.

لن يكون ضرباً من الخيال، إذا صحا بشار الأسد بعد عام ولم يجد في سورية سوى أعداد قليلة، لأن استمرار نزوح الشعب السوري، وفق الوتيرة التي شهدها العالم في الأسابيع الأخيرة، كفيل بأن يفرغ البلد كلياً. وسيأتي يوم لن يمكث في سورية غير حاضنة الطاغية المعتوه، وشعبه الخاص الذي لا يزال يهتف “بالروح بالدم نفديك يا بشار”، بالإضافة إلى أمراء الحرب من دواعش و”جبهة النصرة” وجماعات تتاجر بالإسلام. والمؤكد أن السوريين الذين جرّبوا طريق البحر من أجل الحرية سيعودون أكثر قوة، لأنهم وحدهم أهل للحياة على أرض سورية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى