صفحات العالم

سورية تتحوّل مسرحاً للحرب الباردة الجديدة/ نزار عبد القادر

 

 

شكّلت الغارات الصاروخية والجوية التي شنّتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على تسعة أهداف في سورية من بينها ثلاث منشآت خاصة بالأسلحة الكيماوية تحوّلاً كبيراً في الأزمة السورية، إذ حوّلت الصراع من بُعديه الداخلي والإقليمي إلى صراع بين الدول العظمى.

كان الهدف المعلن للهجوم الاقتصاص من نظام الرئيس بشار الأسد بعد تجاوزه الخطوط الحمر بلجوئه مجدداً إلى استعمال السلاح الكيماوي في دوما، ومقتل وإصابة العـــشرات من السكان المدنيين.

اعتبر العديد من المـــــراقبين أن الضربة ضد تسعة أهداف لم تكن مؤثرة على مسار الصراع، وبأنها ذات طابع رمزي، ولن تكون لها أي مفاعيل لردع النظام عن استعمال أسلحته المحرّمة دولياً ضد المدنيين في أي مواجهة مع المعارضة في المستقبل المنظور. لكن على رغم مفاعيلها المحدودة، فقد هدفت الدول الثلاث إلى توجيه رسالة واضحة إلى النظام بأنه لا يمكنه الاحتماء وراء استعمال روسيا حق النقض لتعطيل مشروع قرار دولي يدين فعلته وبالتهديدات الروسية بالتصدي لأي ضربة تستهدفه، فالعالم الغربي لن يقف مكتوف الأيدي أمام استهدافه المدنيين بغازاته السامة، متجاوزاً بذلك كل القوانين والبروتوكولات الدولية التي تحرّم ذلك.

حمل الهجوم أيضاً رسالة مزدوجة إلى روسيا مفادها أنه لم يعد مسموحاً لها بأن تحمي حليفها باستعمالها المتكرر حق النقض لتعطيل قرارات مجلس الأمن، وأن إسقاط القرار الأخير لن يثني الدول الغربية عن القيام بإجراء عقابي رادع ضد النظام السوري، بالإضافة إلى الاستخفاف بتهديدات بوتين بإسقاط الصواريخ والرد على مصادرها.

قبل التطرّق إلى التغيير الذي طرأ على مسار الأزمة السورية بعد الغارات الأخيرة، وما حملته هذه الضربة من مؤشرات إلى تحوّلها صراعاً دولياً، لا بدّ من الإشارة إلى البُعد العسكري للهجوم والرسالة «الرادعة» التي حملتها للنظام السوري. لقد جرى انتقاء الأهداف بعناية، فلم تقتصر على مراكز البحث وتطوير الأسلحة الكيماوية، بل شملت مواقع عسكرية ذات قيمة عالية للنظام كمواقع الدفاع الجوي في جبل قاسيون وحول القصر الرئاسي، بالإضافة إلى قيادات وحدات الحرس الجمهوري، بما يحمل رسالة شخصية وخاصة موجهة للرئيس بشار الأسد والقيادتين الروسية والإيرانية المسؤولتين عن حماية النظام ورئيسه.

بعد تنفيذ الهجوم وانضمام كل من بريطانيا وفرنسا إليه، لا بدّ من التوقف أمام دلالاته السياسية والديبلوماسية، خصوصاً في ظل عدم اكتراث الدول الثلاث بالتهديدات التي صدرت عن أعلى القيادات الروسية، بأن روسيا ستسقط الصواريخ وسترد على مصادرها. تفيد القراءة المتمعنة ببداية مرحلة جديدة في العلاقات بين الدول الكبرى.

تشير التطورات والأحداث خلال الأشهر الماضية إلى بداية عودة أجواء الحرب الباردة بين روسيا والدول الغربية، وهذا ما يؤكده تراجع مستوى الاتصالات والعلاقات الديبلوماسية، بالإضافة إلى طرد أعداد كبيرة من الديبلوماسيين الروس من بريطانيا بعد اتهام موسكو بالقيام بعمليات استخبارية وهدّامة، ومن بينها محاولة اغتيال عميل روسي سابق مع ابنته في سالزبوري، ويدل على تدهور العلاقات الأميركية– الروسية تراجع العلاقات إلى مستوى الاتصال والتنسيق العسكري من أجل تفادي حصول أي مواجهة عسكرية في سورية.

لقد حلّت بالفعل عمليات التنسيق العسكري الميداني مكان العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، إذ نجحت في تبريد سخونة الاحتقان والتوتر في الفترة التي سبقت الهجوم، وحالت بالتالي دون حدوث ردود روسية عليه.

يؤشر ما شهدناه في سورية قبل هجوم الرابع عشر من نيسان وأثناءه وبعده إلى وجود حال من الانفصال بين البُعدين السياسي والعسكري في صناعة القرار. عندما علت لغة التهديد وقرقعة السيوف عند القيادات السياسية، تدخل العسكريون مستعملين منطق الواقعية والحكمة لتنفيس الأجواء واحتواء التوتر. لقد نجح العسكريون في احتواء مفاعيل لغة العداء السياسي، والناتجة من حصول فراغ كبير في مسار العمل السياسي والديبلوماسي بين الولايات المتحدة وروسيا.

يبدو أن حدّة الأزمة التي نشأت بين الدول الغربية الثلاث وروسيا في أعقاب الهجوم الكيماوي في دوما لم تأت فقط بسبب حرص هذه الدول على معاقبة نظام بشار الأسد لاعتدائه السافر بالغازات السامّة على المدنيين، أو بسبب القصف المدمر الذي نفّذه الطيران السوري والروسي على بلدات الغوطة، بل هي نتيجة الاحتقان الحاصل على خلفية الأزمات الأخرى بين المعسكرين. وتؤشر إلى ذلك بوضوح مسارعة فرنسا وبريطانيا للمشاركة في الهجوم. وعلى رغم تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بضرورة معاقبة النظام السوري على استعماله السلاح الكيماوي، فإن الدوافع والأسباب الحقيقية لهذه المشاركة تتعدّى ذلك، وتشمل أسباباً موضوعية تتعلق بعلاقاتهما «السيئة» بروسيا، فالرئيس الفرنسي كان عبّر عن غضبه من الطريقة التي يتعامل فيها الإعلام الروسي مع فرنسا أثناء زيارة بوتين باريس بعد الانتخابات الفرنسية. في الوقت الذي تمرّ فيه العلاقات البريطانية– الروسية بأزمة حادّة، ظهّرتها محاولة اغتيال العميل سكريبال.

في المقابل يعتبر بوتين أن مشاركة فرنسا وبريطانيا في الهجوم الأميركي جاءت بدافع توظيفها داخلياً. ويتجاهل بوتين أن الأسباب الحقيقية تعود للضغوط التي تمارسها روسيا على الجبهة الشرقية لحلف شمالي الأطلسي، والتي بات لا بدّ من تنفيسها على جبهة أخرى. في الوقت ذاته ترى روسيا أنه لا بدّ من افتعال حرب باردة جديدة مع الغرب من أجل التعبير عن رفضها الضغوط التي يمارسها حلف الأطلسي على طول حدودها مع أوروبا.

من الطبيعي أن تشهد العلاقات في أجواء الحرب الباردة توترات سريعة أو مفاجئة، ولكنها سرعان ما تتراجع حدّتها، والمثال الأبرز الذي يدل على ذلك يتمثل بما حدث أثناء أزمة الصواريخ الكوبية في تشرين الأول (أكتوبر) 1962، والتي وضعت العالم على شفير حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، والتي نجحت المفاوضات في انفراجها بعد ثلاثة عشر يوماً بسحب موسكو صواريخها وتعهد واشنطن بعدم غزو كوبا، وقد انتهت الأزمة الحادّة بضحية واحدة، كان قائد طائرة استطلاع (يو2)، التي أسقطت فوق الجزيرة.

في سورية انتهت أزمة تبادل التهديدات بحصول مواجهة بين بوتين وترامب وجرى تنفيس الاحتقان من خلال التنسيق الميداني بين العسكريين من الجانبين الذين باتوا يتعاملون مع الأمور بشكل مختلف ومن منظار سياسي.

يبدو من خلال مسار هذه الأزمة أن سورية تحوّلت مسرحاً مثالياً لتسجيل النقاط بين موسكو والدول الغربية الثلاث، مع عدم وجود رغبة لدى أي من الطرفين بحصول مواجهة بينهما، وهما يدركان مدى أهمية حفاظ كل طرف على مصالحه في سورية والمنطقة. يدفع إدراك الطرفين إلى تحويل سورية إلى مسرح للمواجهة «المضبوطة» بانتظار نضوج الظروف الموضوعية لحل الأزمات الأخرى الضاغطة في القارة الأوروبية والشرق الأوسط، ومن بينها احتواء التمدّد الإيراني في سورية وفي عدد من الدول العربية.

لذلك، فإن من الطبيعي جداً توقّع تحوّل الحرب الباردة التي بدأت في سورية إلى ما كانت عليه الحرب الباردة في ألمانيا المقسّمة بدءاً من خمسينيات القرن الماضي وانتهاءً بتفكك الاتحاد السوفياتي.

من هنا، لا يمكن توقّع حصول أي تقدم على مسار حل الأزمة السورية بعد التحوّلات الأخيرة، إذ بات حلّها مرتبطاً بصورة مباشرة بحل الأزمات الأخرى الضاغطة على علاقات روسيا بالغرب. ومن المنتظر في ظل هذا الوضع المستجد أن تبادر موسكو وواشنطن إلى وضع القواعد الجديدة للعبة الحرب الباردة، ورسم خطوط الفصل بينهما في سورية، وذلك على غرار ما كان قائماً في ألمانيا بعد تقسيمها دولتين.

ويبقى السؤال المطروح: هل سيتم تقسيم سورية، وتأجيل البحث عن حل سياسي لأزمتها إلى حين التوافق على حل الأزمات الأخرى، وانتهاء الحرب الباردة، وذلك على غرار ما حدث في ألمانيا؟

إن الإجابة عن هذا السؤال مؤجلة بانتظار بلورة الدول الغربية استراتيجية واضحة في سورية تسعى إلى احتواء النفوذ الإيراني والروسي من جهة، وإلى بلورة آليات قضائية دولية لمعاقبة نظام بشار الأسد من خارج آليات مجلس الأمن المعطلة، بفعل استمرار روسيا في استعمال حق النقض لتعطيل جميع القرارات الخاصة بالنزاع من جهة ثانية.

* باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى