صفحات الثقافة

سورية … تجربة شخصية/ نصري حجاج

 

لطالما كان ينتابني الخوف، حين أعبر الحدود اللبنانية زائراً دمشق. ولطالما كنت أصاب بالقلق، كلما كان عليَّ أن أراجع فرع فلسطين في منطقة “عين الكرش”، لأطلب الموافقة لمغادرة دمشق، عائداً إلى لبنان، بعد أن أكون قد حصلت على موافقة من المخابرات لدخولها. كان هذا في السبعينيات وإلى منتصف التسعينيات، فقد كان على الفلسطيني المقيم في لبنان أن يحصل على موافقة المخابرات السورية، للدخول إلى سورية والخروج منها. لكي تعرف هذه الأجهزة متى دخلت ومتى خرجت، حتى ولو كان هدفك مجرد زيارة ليوم واحد، ترى فيها الأقارب اللاجئين هناك منذ عام 1948.

ومع صعوبة الرحلة، وما تحمله من قلق وخوف، كنت أحبّ سورية، وكنت أحس بأنني سوري، فقد تأثرت في مراهقتي المبكرة بكتابات أنطون سعادة، وإن لم أقترب من حزبه. كانت لغته العربية هي ما جعلتني ألجأ إلى أفكاره، أو ربما اعتزازه باللغة وآفاقها الرحبة في بلاد الشام.

منذ الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية السورية ضد نظام الاستبداد البعثي في مارس/ آذار 2011، وجدتني مندفعاً في تأييدها في ما يشبه زعزعة الروح. لقد عشتها كسوريّ، لا بل عشتها كفلسطيني، أو ربما كسوري، ولكني حتماً عشتها كفلسطيني، فقد كنت، دائماً، أعتقد أن النظام البعثي في سورية استكمل في تعامله مع الفلسطينيين ما بدأته إسرائيل، منذ قطّعت أوصال فلسطين، وقطعت زمنها ومسارها الطبيعي، حين هشمت كينونتها، وأحدثت ذلك القطع القسري في تاريخها وجغرافيتها، وجعلت من هذه الكينونة نتفاً جهد الشعب الفلسطيني، بكل عناصره، في لملمتها، وإعادة تشكيلها جسماً يقاوم الزمن، ويخلق من الألم والتشظي فسحة لإعادة تشكيل الذات التي تعرضت إلى أبشع عملية ذبح.

كفلسطيني مقيم في لبنان، عشت تجربة الصراع الدموي الذي خاضه النظام البعثي السوري ضد الوطنية الفلسطينية، كما ضد الوطنية اللبنانية، وخبرت سعيه الدؤوب إلى إحكام قبضته الخانقة لشعبه على مصير القضية الفلسطينية، وقد وصلت سياسته تلك إلى ذروتها في الحرب الأهلية اللبنانية، وتدخله العسكري في لبنان، لتحجيم الحركة الوطنية الفلسطينية، وحشرها تحت إبطيه ورقة للمساومة، هي وشقيقتها الحركة الوطنية اللبنانية.

كنت في مخيم عين الحلوة حين قصفت راجمات الصواريخ السورية، روسية الصنع، المخيم ومدينة صيدا، وقتلت عشرات المدنيين بلا تمييز، وكنت في بيروت، حين قدّم النظام دعمه الفاعل لميليشيات الكتائب في حصار تل الزعتر، وتدميره لاحقاً. وكنت في صيدا، حين تم حصار المخيمات في شاتيلا وبرج البراجنة والرشيدية، فيما سميّ حرب المخيمات التي دعم فيها النظام حركة أمل. وزرت مخيم البداوي صحافياً، أسابيع قبل قصف النظام وأتباعه المخيم لإجبار ياسر عرفات ورفاقه للخروج من لبنان نهائياً عام 1983، لإضعافه وإضعاف موقفه السياسي أمام الضغوط الدولية، ودفعه لاحقاً إلى اللجوء مطروداً من شمال لبنان، على بواخر فرنسية إلى مصر كامب ديفيد، في طريق عودته إلى تونس.

في السنوات الأربع الأخيرة من النزيف السوري، لم أجد نفسي بعيداً عن آلام الشعب السوري، ولو قيد أنملة، وقد رأى بعض أصدقائي أن ما يدفعني إلى هذا الموقف ليس أكثر من أسباب شخصية، فقد قُتل أخي نزار في صيدا في يونيو/ حزيران، حين اقتحمت الدبابات السورية المدينة. وذهب بعض هؤلاء الأصدقاء بعيداً في تفسير موقفي (الشخصي)، لأن زوجتي سورية، وهي، مثل سوريين كثيرين، لم يعد في وسعها العودة إلى بلادها، بسبب القمع الوحشي الذي يمارسه النظام ضد معارضيه.

تلك هي الزعزعة التي أصابت روحي، منذ صرخ الشعب السوري منادياً بحريته، فلم يعد ممكناً، لا على المستوى الشخصي، ولا العام، أن أقبل المواقف التي تبرر لهذا النظام وحشيته، ولم أعد آسفاً على اندثار بعض الأصدقاء من حياتي.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى