صفحات سوريةمازن كم الماز

سورية.. تفكيك خطاب النظام

 


مازن كم الماز

تبدأ الثورات عادة بأقلية تنفض عن كاهلها غبار الصمت والعطالة، وتبدأ بالاحتجاج على أوضاعها، الخطوة التالية والمهمة في كل ثورة هي موقف الأغلبية الصامتة التي إما أن تتحرك إلى جانب الأقلية التي انتفضت في البداية، أو تقرر الاستمرار في الصمت والاستسلام لأوضاعها. تنتصر الثورات إما عندما تنضم أكثرية المجتمع أو الطبقات المسحوقة إلى الاحتجاجات على سلطة الطبقة الحاكمة، أو عندما تكون الأقلية المنتفضة كبيرة بما يكفي للتغلب على قوى السلطة القائمة، خاصة باستخدامها لأساليب وتكتيكات ثورية قادرة على تفكيك مصادر قوة سلطة الطبقة الحاكمة. طريق الأغلبية الصامتة إلى الثورة يمر بالضرورة عبر تفكيكها لخطاب السلطة القائمة وتطور إحساس الجماهير بقوتها مقابل إحساسها بضعف السلطة القائمة. في سورية هناك اليوم بؤر ثورية، بؤر خلقها كما هي العادة في كل الثورات، النظام نفسه، في درعا واللاذقية ودوما … النظام من خلال ما يبدو

كممارسة عادية ‘مقبولة’ أو مفروضة في الأوقات العادية يخلق الاستياء بشكل متفاوت بين المناطق وفئات الجماهير المختلفة، فينــــتفض بعضها أولا كخطوة أولى ضرورية في أية ثورة، لكن يجب القول ان غالبيــــة الشعب السوري ما تزال تتفرج حتى الآن، لكن هذا لا يعني موافقــــتها على أوضاعها وعلى سياسات النظام المسؤولة عن هذه الأوضاع، كما يردد إعلام النظام، هذا لا يعني أيضا أنها ستستمر بالفرجة والخضوع إلى الأبد.

تخضع الجماهير عادة بسبب القمع وشدته، وكلما كان القمع أكثر همجية كان طريقها إلى أن تصنع ثورة وأن تنتزع حريتها، أصعب وأكثر مشقة، وتخضع الجماهير بسبب ما يمكن تسميته بخطاب السلطة الذي يغذي حالة الاستسلام السلبية، ليضيف إلى الخوف من القمع القائم خوفا قد يكون أكبر، من الحرية نفسها، تماما كما يفعل الكبار عندما يهددون المراهقين المتمردين بمخاطر انفلاتهم وخروجهم عن السلطة الأبوية. من نتائج المرحلة الأولى، المستمرة حتى الآن، للانتفاضة السورية هو أنها خلقت نقاشا عميقا في المجتمع حول النظام، وحول الثورة، وحول كل جوانب الحياة الاجتماعية في سورية، بما في ذلك بنية السلطة وعلاقتها بالمجتمع ـ المحكومين، والأغلبية الصامتة حتى الأمس تتحدث علنا اليوم عن النظام وعن قانون الطوارئ وعن مجلس الشعب والحكومة. نقطة أخرى يقوم بها المنتفضون أمام أعين البقية الصامتة حتى الآن هي تفكيك خطاب النظام، إن مواجهة التفسير الرسمي لقمع النظام ضد المطالبين بالحرية يمر بالضرورة عبر تفكيك خطاب النظام السياسي والفكري نفسه، نحو إنتاج مفاهيم وأفكار جماهيرية تعارض سطوة النظام بحرية الجماهير، هذه الأفكار ليست مستوردة بالضرورة من النخبة، ولو أنها قد تكون في حوار مع مفاهيم النخبة ذاتها، هذه المفاهيم والأفكار في معارضتها للخطاب الرسمي تعيد إنتاج تصور الجماهير ورؤيتها عن واقعها، عن أسباب مشاكلها وعن مقاربات الحل الممكنة، والأهم عن بديلها لاستبداد النظام أي الحرية، حريتها. هذه الأسئلة ضرورية في عملية توسيع البؤر الثورية إلى مناطق أبعد وانضمام قوى جماهيرية إضافية للمحتجين، إن التفسير الرسمي للقمع الدموي الذي مورس ضد المنتفضين في البؤر الثورية حتى الآن لا يمكن أن يمر إلا إذا اعتبرنا أن سكان درعا واللاذقية ودوما، والقلة التي تخرج في المظاهرات الاحتجاجية في المناطق الأخرى هم إما جنود مارينز أو مستوطنون إسرائيليون، وأن الشعب السوري هو بالتعريف السلطة القائمة ورجال أمنها فقط، من دون هذا الافتراض لا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير قمع النظام، الذي أوقع عددا معتبرا من الضحايا والشهداء والمعتقلين والجرحى حتى اليوم، وبالتأكيد فهذه الفكرة مركزية في كل العرض الذي يمارسه إعلام النظام ورجاله، انتهاء بالخطاب الوحيد لرئيس النظام حتى اليوم للأزمة الثورية الناشئة في سورية. لم يعد الموضوع يتعلق بمعارضة في الخارج يمكن ممارسة التخوين ضدها بسهولة أو في الداخل يمكن قمعها بسهولة، القضية الآن في حركة جماهيرية عفوية إلى حد كبير وتستقطب أعدادا مهمة من الجماهير، النظام الذي اعتقد طويلا أنه أخفى سطوة أجهزته على حياة السوريين العاديين خلف ستار من ألفاظ الممانعة لا يجد أمامه إلا الكذب ليبرر هذه الانتفاضة الجماهيرية في محاولة حثيثة لإخفاء أي ذكر للحرية نفسها، حرية الجماهير، كفاعل حقيقي وراء هذه الانتفاضة، تماما كما فعل قبله بن علي ومبارك وصالح والقذافي، طبعا إلى جانب القمع الذي يمارسه بنفس الهمة، لكن قد يكون الخوف من الحرية في الحالة السورية هو العامل الأكثر أهمية في تأخير انضمام الكتلة الرئيسية من الجماهير إلى الثورة، فالنظام حاول منذ سقوط نظام صدام في العراق استخدام الحالة العراقية كفزاعة حقيقية، وهو يقول، كما يقول بقية الطغاة اليوم، ان بديله الوحيد هو الفوضى، أو ربما الحرب الأهلية، الفتنة الطائفية، الخ .. في نهاية المطاف يكفي أن يبدو النظام كشر لا بد منه، أو كأهون الشرين حتى يتجنب تحول الثورة السورية إلى قوة شعبية عارمة لا قبل له بمقاومتها.. إن أبرز دليل على تهافت مثل هذه الفزاعة الطائفية هو في تردد القسم الأكبر من الجماهير في ما يتعلق بالانضمام للمنتفضين خوفا من ظهور أشكال مختلفة من كراهية الآخر والنزاعات القائمة على أسس طائفية، إن هذا التردد يعكس رغبة عامة، سائدة، في ضرورة عدم الانزلاق لهذا البديل، سواء بين الأغلبية السنية أو الأقليات الأخرى، لو كان هذا التفكير هو المسيطر أو الحاسم، أو الفاعل إلى درجة ما بين الجماهير، لانفجرت الفتنة الطائفية بالفعل في هذه الأيام مع بوادر ضعف النظام من جهة وتصاعد قمعه الوحشي ضد بؤر ثورية سنية أساسا من جهة أخرى. هناك ثقل ما للتفكير الطائفي وللقوى الطائفية، لكن هذا الوزن يستفيد أساسا من انعدام الحرية والمساواة على المستوى العام، وانعدام المساواة هذا لا نجده بين طوائف، بل بين أقلية محدودة جدا على رأس النظام، وغالبية عظمى متعددة الطوائف، كما أن قمع النظام لا يميز طائفيا، بل إنه يستهدف كل ما يعتبره النظام مصدر خطر على هيمنته من أي طائفة جاء. إن الحرية ليست حلا سحريا بالتأكيد لكن الحل الوحيد لمشاكلنا اليوم، الاجتماعية والسياسية وعلى مستوى الوعي الفردي والجمعي لا يكمن في الاستبداد ولا في القمع، بل في الحرية والمزيد من الحرية، وللحرية طبعا آثارها الجانبية وقد تكون بعض هذه الآثار مؤلمة بالفعل، لكنها بلا شك أقل خطرا وإيلاما مما سببه الاستبداد حتى اليوم في سورية وفي غيرها، ليس فقط في الأربعين سنة الماضية، بل في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، لقد سقط عدد كبير (نسبيا) من الشهداء والمعتقلين، إذا أخذنا بالاعتبار تركز الاحتجاجات لفترة من الوقت في محافظة درعا الصغيرة بعدد سكانها، الكبيرة بشجاعة شبابها، وشاهدنا النظام أيضا يقدم تنازلات سريعة في ما يتعلق بالمستوى المعاشي للسوريين العاديين من زيادة أجور إلى تخفيض في بعض أسعار السلع الرئيسية، الأمر الذي يشير إلى أن معاناة العقد الماضي الذي كان شديد الوطأة على السوريين الفقراء تحديدا، كانت معاناة مصطنعة سببها سياسات النظام وليس أية ظروف أخرى. إن طريق الشعب السوري إلى الحرية، يبدو صعبا، شاقا بسبب النظام أولا، لكن الخطوات الأولى على هذا الطريق الوعر، الأكثر صعوبة قد أنجزت، ويبدو أن النظام هو نفسه أيضا يسهل علينا السير والتقدم على هذا الطريق، ليس فقط بقمعه وبخطابه الإعلامي المبتذل، بل أيضا بأن يؤكد لنا في كل يوم ولحظة عجزه عن القيام بأي إصلاح جدي يستجيب لمصالح وآمال الشعب السوري بكل طوائفه وقومياته، خاصة طبقاته الأكثر تهميشا وفقرا، وأن الثمن الذي ندفعه مقابل استمرار استبداده أكبر بكثير من أي نتائج جانبية لانتزاعنا حريتنا من قبضة أجهزة النظام الأمنية.

سرعان ما سنكتشف أن حريتنا ستجعلنا أجمل وأذكى وأكثر قدرة على المحبة، سرعان ما سنصنع نحن أيضا ساحة تحريرنا وسنكتشف بعضنا البعض هناك، كبشر مضطهدين، مختلفين في بعض التفاصيل الصغيرة لكنهم موحدون في توقهم إلى الحرية.

‘ كاتب سوري

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى