صفحات العالم

سورية على مفترق طرق

 


نهلة الشهال

وُصِف النظام في سورية بما فيه الكفاية، ولا أظن أن هناك من مزيد لإيضاح صورته، ولا لتحليل ممارساته، ولا لتأكيد فقدانه الشرعية. وهو قضى، في الفصل الأخير من القمع ومن الرفض العنيد والبليد للتعاطي مع المطالب السياسية والاجتماعية للسوريين، على آخر ما كان يمكن أن يستند إليه من رأس مال رمزي، أي رصيده في الوقوف في خانة المناهضين لإسرائيل.

فهو، وإن لم يحارب عسكرياً، وإن تقلب سياسياً بشكل يثير علامات استفهام مشروعة، واجه فعلاً إسرائيل في لحظات حرجة من تاريخنا الحديث، وأبطل أو عرقل على الأقل سهولة سلوك طريق الاستسلام التام لها الذي بدا واقعاً لا محالة في وقت من أوقات اختلال ميزان القوى تماماً لمصلحتها ومصلحة واشنطن. وهو قدم الدعم للمقاومات الفلسطينية واللبنانية، على عجرها وبجرها بالتأكيد، ولكنها كانت وما زالت القوى التي نمتلكها، أو قل نستحقها، بما أن الأعطاب اللاحقة بنا، كمجتمعات ونخب، عميقة ومكينة. وعلى ذلك، فهذه المقاومات جسر عبور إلى حالة أفضل، يمكن الطموح إليها، ولا يُفترض ولادتها من عدم.

كثيراً ما يقال إن مواقف النظام السوري تلك ليست «صادقة»، ولا تنبع من قناعات بل من مصالح. وهذا نقاش خارج الصدد في معظمه، لأن السياسة هي كذلك، ولأن كل بنية، أكانت سلطوية أم مدنية، ابنة تاريخها وأسيرته في آن. ولا يعني ذلك أنها لا يمكن أن تغادر تاريخها، والأمثلة أكثر من أن تحصى. ولكن للمغادرة إجمالاً ثمن باهظ، كما تحول دونها تعقيدات قد تجعلها مستحيلة أو صنو التوقيع على الانتحار الذاتي. كل ذلك من أبجديات السياسة، فلا معنى لتفحص صدقية دمشق، ولا سواها، في هذا المجال.

بدد النظام السوري إذاً الميزة الاستثنائية التي كانت تعود إليه بفضل مواقفه المناهضة لإسرائيل والمعترضة على السياسة الأميركية والداعمة للمقاومات، بسبب مسلكين: الأبسط، حين حاول بطريقة مبتذلة استخدام التهديد بفتح المجال للعبور من الجولان إلى الأراضي المحتلة، وكانت الرسالة موجهة فعلياً إلى واشنطن وتل أبيب، كما إلى بعض الأنظمة العربية، وتقول: «أنا ضمانة هدوء الحدود». وهو بالفعل ضَمِن هذا الهدوء منذ 1974. وقد كلفت الرسالة أرواحاً عدة، خصوصاً لشباب فلسطينيين لاجئين في سورية، اعتبروا أنها فرصة لتأكيد طموحهم في العودة إلى بلادهم المحتلة، وعلى هشاشة إسرائيل لولا حماياتها العربية، وكانوا في ذلك محقين من وجهة نظرهم. إلا أن استخدام نضاليتهم واستعدادهم للتضحية كان محرَّفاً باتجاهات أخرى، معاكسة تماماً لرسالتهم هم.

وأما المسلك الثاني التبديدي، وهو الأهم، فيتعلق بتضخيم البعد المؤامراتي لما يجري، وتوظيف الموقف المناهض لإسرائيل الذي يتخذه النظام في تفسير المؤامرة التي يتعرض لها، وأيضاً، وهذا أخطر ما في الأمر، في تبرير القمع بوصفه يجري لأغراض «نبيلة»، طارحاً بذلك معادلة في غاية السوء: «إن كنتم ضد إسرائيل فعليكم أن ترتضوا بي وأن تخوضوا المعركة إلى جانبي، وإلا فأنتم متآمرون»! وهذه معادلة لا أساس لصحتها، تُقدِّم الأمور بتبسيط الأسود والأبيض المخالف للواقع الشديد التعقيد.

وعلى ذلك، يدفع استخدام هذا المبرر في معركة النظام للدفاع عن استمراريته بأي ثمن، إلى ما يمكن تسميته بـ «الكفر بفلسطين» كمعركة مشتركة لكل أحرار العالم وللعرب منهم في المقام الأول، وإلى تبني شعارات رائجة من قبيل «سورية أولاً»، بينما الموضوع لا يدور حول مَن تكون مصالحه أولاً، بل حول استعادة الترابط العضوي والموضوعي بين الصعيدين، الوطني والقومي. ولا أجد مصطلحات أخرى سوى هذين، رغم الأذى الذي لحق بهما جراء استخدامهما المبتذل هو الآخر.

ثم لا يعني كل هذا أنه لا وجود لمؤامرة تستهدف النظام السوري. بل تآمر الأعداء هو من قوانين العمل والصراع السياسيين، ونقيضه كان ليثير العجب. بمعنى أن وجود مؤامرة تستهدف النظام، بما في ذلك تسريب مجموعات مسلحة إلى البلد أو تسليح سواها محلياً والتسبب بالإرباك العام، من البديهيات. والمؤامرة قائمة حتماً وفاعلة بنشاط، وأطرافها عديدة، عربية كما غربية وإسرائيلية. ولكل حســـاباته وغاياته، وربما مخططاته أيضاً لفرض تغييرات تبدأ من دفع النظام السوري لتغيير تحالفاته إنقاذاً لرأسه، وتنتهي عند استهداف وجوده مهما كان الثمن. والعجيب فحسب انه جرى تأسيس عملي وعملياتي لكل هذا التآمر على النظام، من دون أن يشعر بالترتيبات التي اتخذ معظمها بشكل مسبق حتماً، مما يؤشر إلى هشاشة الحماية الأمنية مهما عظمت أجهزتها. ولكنهم لا يتعظون!

كل ذلك مفهوم، ولكنه لا يكفي لتلخيص الصورة.

فهناك على الجانب الآخر استخدام مفرط من قبل النظام السوري لخطر الفوضى العامة والانزلاق إلى الحرب الأهلية. أي انه يهدد بها علناً في تصريحاته السياسية، كما يترك عناصرها تنفلت من عقالها على الأرض، بل يشجعها، مفترضاً أنه قادر على ضبطها عند الحاجة. وهو في نهاية المطاف ينحاز بوضوح إلى هذا «الحل» في وجه إمعان المجتمع في تمسكه بمطالبه! وهذا ابتزاز واضح، يدعو الناس إلى التخلي عن حقوقهم تجنباً للكارثة التي توشك أن تصيبهم.

والتهديد بالحرب الأهلية مسلك ينزع ما تبقى من شرعية أي نظام يُفترض به، مهما كانت فظاظته، أنه يحكم تجنباً لهذا الاحتمال… وإلا أصبح طرفاً في معادلة هي، تعريفاً، مدمرة للجميع. ولا شك في أن بنية النظام السوري الأصلية تكتنز هذا البعد، احتمالياً، وأنها في مرة سابقة على الأقل أوشكت على توليده. ولكنها تمكنت من تجنب الانزلاق إليه، بفضل تسوية وإن جزئية ومنقوصة مع المجتمع.

ويطرح النظام اليوم الصيغة ذاتها، ولكن بدرجة أشد نقصاً وجزئية، بينما تغير العالم لغير مصلحته. وهذا يثير الحاجة إلى تطوير الصيغة التي يتقدم بها النظام من المجتمع، لجعلها أكثر إقناعاً وفعالية. كما يثير، من جهة مقابلة، حاجة قوى المجتمع الحية لاقتراح التسوية المحتملة المقبولة منها ولو بالحدود الدنيا، والدفاع عن تصورها هي بوجه مسعى النظام للفلفة الأمر بالتي هي أحسن. والأمر هنا يتعلق بحس المسؤولية لدى هذه القوى تحديداً، وليس تلك المرتبطة بأطراف تآمرية فعلاً، لا يهمها مصير سورية البلد والمجتمع، بل تحقيق غاياتها، وإن على جثث كل السوريين.

الواقع الإضافي أن نتائج كبرى ستترتب على الانزلاق إلى الحرب الأهلية في سورية على الأوضاع في لبنان والأردن والعراق، بل تركيا أيضاً، والأمر سيكون طويلاً جداً، وفي غاية الدموية، وسيخرج منه الجميع خاسراً، النظام كما مناهضوه.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى