صفحات العالم

سورية في العيادة الدولية


غسان شربل

لا يستطيع احد قبول هذه المشاهد. إنها قاسية. مروعة. مستفزة. قتلتنا مشاهد الجنازات وهي تنجب المزيد من الجنازات. قتلتنا صور جثث الاطفال. وصور مدنيين ممددين في الشارع والقناص يطارد من يحاول الاقتراب. أنهكتنا صور البيوت المحروقة. والجدران المبقورة. ودموع الثكالى. لسورية رصيد تاريخي في قلب كل عربي. لهذا يشعر انه ينزف معها. ويموت معها. وربما بسبب هذا الرصيد التهبت المشاعر. وتصاعد الاستقطاب. وتعالت الصيحات. والاستغاثات. والمناشدات. والإدانات.

لا يستطيع احد قبول المَشاهد الوافدة من حمص. والزبداني. وحماة. وإدلب. وغيرها. ليس فقط بسبب قسوتها. بل ايضا لأنها تَعِدُ بما هو ادهى. طريقة قتل مواطن تنذر احياناً باحتمال قتل وطن. مقتل قرية ينذر دائماً بمقتل بلاد.

لا شيء يمكن ان يبرر هذه القسوة اللامحدودة. نعرف ان عناصر من الجيش انشقت وسمت نفسها «الجيش السوري الحر». ونعرف ان معارضين لجأوا الى حمل السلاح. لكن وجود هؤلاء او أولئك في هذه المدينة او تلك القرية لا يبرر أبداً تعميم التهمة وتعميم القسوة. ثم إنه لا يشكل حلاًّ. ويزيد من التفاف الناس حول المسلحين بينهم، خصوصاً بعدما سدت الآفاق امام الاحتجاجات السلمية. وحتى ولو سلمنا بما تقوله دمشق عن أجندات ومؤامرات، فإن هذا النوع من العلاج ليس علاجاً على الاطلاق. انه يشبه قراراً بالإصرار على الغرق.

خسرت سورية حربها الاعلامية منذ بدء الاحتجاجات. رسخت الحلقات السابقة من «الربيع العربي» ميل الناس الى التعاطف مع كل احتجاج يطالب بالحرية والكرامة. لم يستطع الاعلام السوري تقديم رواية مقنعة تنافس الميل البديهي الى التعاطف مع المحتجين. حتى الذين كانوا يبحثون لسورية عن تبريرات او أسباب تخفيفية أضعف فقر الرواية الرسمية موقفهم. وخسارة المعركة على الشاشات مكلفة لأنها تساهم في صناعة الرأي العام وتترك أثرها على مواقف الأحزاب والدول.

وجدت صعوبة في فهم ما حدث امس. اذا كان سيرغي لافروف حمل موقفاً داعماً، فهل يجوز إحراج الحليف الروسي بمثل هذا التصعيد بعيد مغادرته؟ ألا يصبّ ذلك في مصلحة من قالوا ان الفيتو الروسي والصيني هو «رخصة للقتل»؟. واذا كان لافروف قال في السر غير ما قال في العلن ولمح الى مطالب مزعجة، هل يكون الحل بتصعيد يضعف الموقفين الروسي والصيني ويحرج البلدين؟ ألم يكن من الأفضل التبصر بمعاني قرار دول مجلس التعاون الخليجي طرد سفراء سورية من أراضيها؟ أولا يشكل الغوص في الحل الامني تحريضاً لهذه الدول وغيرها على الذهاب أبعد في معاقبة النظام السوري على سلوكه طريق الحسم العسكري؟

ساهم التصعيد العسكري الدموي امس في تعزيز اتجاه بدأ مع الفيتو الأخير في مجلس الأمن وهو وضع الملف السوري على طاولة التجاذبات الدولية الكبرى علاوة على التجاذبات الإقليمية المحمومة. رسخت تطورات الايام الاخيرة الانطباع بأن سورية فقدت القدرة على إنجاب مبادرة تخرجها من انزلاقها المتسارع نحو الحرب الاهلية او الفوضى المدمرة. رسخت الانطباع أيضاً بأن سورية مريضة ولا بد من استدعائها الى العيادة الدولية على رغم اختلاف الأطباء حول التشخيص والعلاج ومدى حاجتها الى جراحة عميقة.

خلال شهور من الاحتجاجات خسرت سورية تباعاً أطواق الأمان الإقليمية والدولية. خسرت قبل ذلك صمامات أمان أساءت تقدير أهميتها. تقول التجارب ان الإقامة في العيادة الدولية مكلفة للدولة والنظام. وإن كبار الأطباء ليسوا ملزمين في النهاية بأخذ موافقة المريض على استخدام الدواء المر او إجراء جراحة قاسية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى