صبحي حديديصفحات سورية

سورية في بورصة الكوارث: تعددت السيناريوهات والمآل واحد


صبحي حديدي

صار شائعاً وسهلاً، بل مستسهَلاً أيضاً، الخوض في غمار المستقبل السوري؛ الآن، في الراهن، وقد ربط النظام بقاءه ببقاء البلد، بشراً وكياناً وطنياً وعمراناً؛ وفي المستقبل، إذْ يواجه البلد مصائر صعبة، وخيارات تنعقد على مخاطر كبرى، بعد قرابة نصف قرن من حكم حزب البعث، بينها 42 سنة من نظام ‘الحركة التصحيحية’. و’الغمار’ هنا صار أشبه ببورصة صاخبة، يتدافع فيها المراهنون بالمناكب، كلٌّ يدلي فيها بدلو: تارة يقرأ المرء عن سيناريو الكابوس الوشيك، الذي يمكن أن يبدأ من تقسيم البلد وتفتيته و’انفجار’ سورية؛ وطوراً يقفز سيناريو الحرب الطويلة، المديدة والمستدامة، ليس بين فئات المجتمع السوري الإثنية و/أو الطائفية والدينية، فحسب، بل على مستويات عربية وإقليمية.

ولن يعدم المرء فقيهاً ينصح باتفاقية طائف سورية، هي خشبة الخلاص الوحيدة، خاصة وأنّ ميزان الطوائف في سورية ليس أقلّ انطواء على عناصر الشقاق من نظيره الميزان اللبناني؛ أو آخر، يزعم التفقه في التاريخ ما قبل الكولونيالي للبلد، يقول إنّ سورية كانت دائماً ‘تركيبة هشة’، أقرب ـ على شاكلة، وربما أكثر، من الأردن ـ إلى دولة ‘المنطقة العازلة’ Buffer State، وخاصة في المفهوم الذي سوف تبتدعه اتفاقيات سايكس ـ بيكو. وحين يبالغ المبالغون (وهم كثر!) في تضخيم حجم، ونفوذ، عشرات المقاتلين العرب والأجانب، المتسللين إلى المناطق المحررة، في حلب وجبل الزاوية خصيصاً؛ فإنّ الكثيرين منهم لا يترددون في التخوّف من ‘أفغنة’ سورية، وانشطارها إلى إمارات حرب، يتزعمها أمراء طوائف!

فإذا بدأ المرء من خصوم البلد، أو تلك الجهات التي لا تضمر خيراً لسورية حتى إذا ادعت تأييد مطامح السوريين إلى إسقاط النظام، فإنّ الملاحظة الأبرز التي تطغى على سيناريوهات هؤلاء هي استبعاد الشعب السوري كطرف فاعل، بل انتفاء دوره أحياناً. تُخلط الأوراق، وتختلط القوى، وتتداخل التيارات، وتتعدد المصالح… فلا تخرج الحصيلة إلا بانتفاضة منزوعة الإرادة، مستلَبة من الخارج، رهينة ‘التحالف الأمريكي ـ القطري ـ السعودي’، أسيرة ‘الجهاديين’ القادمين من أربع رياح الأرض، سجينة كتائب الجيش الحرّ التي يهيمن عليها الإسلاميون وحدهم، ضحية الطائفيين الغلاة المتشددين وكارهي الأقليات والتعددية… إلى ماهنالك، وإلى كلّ ما يخطر على البال، أو لا يخطر، من مثالب وعثرات وأخطاء وقبائح و… جرائم حرب، أيضاً وأيضاً!

لا أحد من هؤلاء يتجاسر على إعلان تفضيله لبقاء نظام الاستبداد والفساد (الذي يظلّ، في نظرهم، ‘العلماني’ حتى إذا كان دكتاتورية دموية، ‘ضامن الاستقرار’ حتى إذا شنّ ضدّ الشعب السوري أقذر الحروب واستخدم كلّ وأثقل الأسلحة، ‘الكفيل الأفضل’ للاحتلال الإسرائيلي في الجولان…)؛ فالحياء، والنفاق، وذرّ الرماد في العيون، كلها تقتضي عدم التصريح بتأييد مستبدّ قاتل، ضدّ شعب قتيل. ولكنّ مسرد ما يعلّقونه على الانتفاضة من نواقص، سرعان ما تنقلب إلى مخاطر ومخاوف وسيناريوهات كارثية، يفضي إلى هذه النتيجة الوحيدة، الجلية رغم كلّ أفانين تمويهها: أنهم يفضّلون بقاء النظام، فإذا تعذّر هذا بفضل صمود الشعب السوري وإصراره على المضيّ بالانتفاضة حتى ساعة النصر الختامية، فمن الخير عرقلة هذا المآل قدر المستطاع، أو إبطاؤه ما أمكن.

أمّا أصدقاء الشعب السوري، أي أولئك الذين يصدقونه قولاً وفعلاً ونيّة، فإنهم يسوقون سلسلة مخاوف مشروعة، ويضربون أمثلة على أخطاء فادحة، ويحذّرون من انحرافات بالغة الخطورة، ويقتبسون وقائع لا يصحّ البتة أن تقترن بأية حركة شعبية ثورية، وذلك على مستويات سياسية وعسكرية وأخلاقية. هم على حقّ في هذا، لا جدال بالطبع، خاصة حين يتصل ما يسوقونه بتلك المعادلة الطاحنة المزدوجة: ما ينفع النظام يضرّ بالانتفاضة، وما يطيل ساعة النصر يمدّ في عمر النظام. والذين يضيقون ذرعاً بملاحظات الأصدقاء، وخاصة عندما تطال ‘مؤسسات’ المعارضة السورية على اختلافها، جدير بهم أن يتوسلوا صدور تلك الملاحظات، وأن يروا فيها صيغة بناء في المقام الأوّل.

غير أنّ البعض من هؤلاء الأصدقاء لا يعتمد مبدأ الإنصاف، الذي يبيّن ما للانتفاضة، وما عليها، سواء بسواء؛ ويدفعه حسّ النقد (البنّاء، غالباً، والحريص المنحاز للحقّ) إلى ملامة الانتفاضة في ما ليس للانتفاضة يد فيه، أو حيلولة دون وقوعه. وهكذا، يُراد من الانتفاضة أن تكون من صنع بشر أقرب إلى الملائكة، وأن تكون خالية، أو تكاد، من أي خطأ جسيم؛ رغم أنّ أحداً لا يصرّح بهذا، غنيّ عن القول، إذْ هو مطلب محال ولا صلة له بالعالم الآدمي. ورغم اعتراف هؤلاء الأصدقاء بأنّ ما اجترحه الشعب السوري، ويجترحه منذ سنة ونصف، أشبه بالمعجزة، على الصعيد العربي في أقلّ تقدير؛ فإنّ إسباغ هذا الشرف يترافق، على نحو شبه آلي في الواقع، بمسرد محاذير يحيل المعجزة تلك إلى… أسطورة!

جدير بالتذكير، إذاً، ذلك المبدأ البسيط ـ العادل والمنصف، بمعايير شتى ـ الذي يقول إنّ الانتفاضة فعل شعبي معقد، أكثر بكثير مما يُظنّ عموماً، وأشدّ انطواء على سيرورات شاقة مركبة، لا ينفع معها تطبيق أيّ مبدأ مانوي يقسم الظواهر إلى أبيض أو أسود، سلمية أو عسكرة، استقلال عن قوى الخارج أو ارتهان لها، وتمسك بسراط الوحدة الوطنية أو انحراف نحو تخندقات طائفية أو دينية أو إثنية أو مناطقية. جدير بالتذكير، أيضاً، هذا الاعتبار المتمم: لأنها فعل شعبي معقد، فإنّ الانتفاضة بالتالي فعل اجتماعي بامتياز، تتجاوز تعقيداته كلّ، وأية، ‘خطاطة’ مثالية تمّت تنقيتها من الأوشاب جميعها. وهي فعل يمكن أن ينقض، في كثير أو قليل، أية ‘وصفة’ مسبقة الصنع، مسبقة التصوّر، مسبقة التخيّل، خالية تماماً من العثرات والأخطاء والانحرافات.

ليس ثمة انتفاضة طوباوية، ملائكية، وردية، سلمية مسالمة لا ينيخ عليها الواقع بأثقاله ومعضلاته وانقساماته؛ فكيف إذا اختُبرت طيلة سنة ونصف، واستُخدمت لقهرها كلّ صنوف الأسلحة، من الدبابة إلى الحوامة فالقاذفة والزورق الحربي، مروراً براجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة والقنابل الانشطارية والمسمارية والغازات المحرّمة دولياً؟ وكيف إذا صارت نقطة اجتذاب، وإغراء وإغواء، لما هبّ ودبّ من صنوف الساعين إلى نصرة الإسلام، عن حقّ أو عن باطل، بما تنطوي عليه صفوفهم من ألوان التشدد ضدّ الآخر، إذا خالفهم الرأي واليقين، حتى إذا كان من أهل ‘دار الإسلام’ التي نفروا للجهاد في سبيل نصرتها؟ فإذا كان الصحافي الأجنبي قادراً على التسلل إلى الداخل السوري، عن طريق الحدود التركية الطويلة، وبعد انهيار الكثير من المعابر الحدودية؛ فلماذا لا يفلح في التسلل مقاتل عربي أو أجنبي؟ وهل يملك كتائب الجيش الحرّ رفاه تأجيل قتال جيش النظام، أو تأجيل الدفاع المصيري عن النفس، بهدف التفرّغ لمقاتلة هؤلاء المتسللين؟

جدير بالتذكير، ثالثاً، أنّ الانتفاضة، بوصفها فعلاً شعبياً اجتماعياً على وجه الدقة، ليست ثمرة توافق مطلق في المصالح والغايات والأساليب والعقائد، حتى إذا كانت شعاراتها الأبرز (إسقاط النظام، بعد الاقتناع نهائياً بأنّ المركّب الأمني ـ العسكري ـ الاستثماري الحاكم ليس راغباً في الإصلاح الحقيقي، وليس قادراً عليه أصلاً؛ والتطلع إلى سورية حرّة ديمقراطية تعددية مدنية، لكلّ أبنائها، على اختلاف انتماءاتهم العقائدية أو الدينية أو الإثنية)، تحظى بإجماع عريض. ولهذا فإنّ المظاهرة الواحدة يمكن أن تضمّ اليساري واليميني والإسلامي والمسيحي والليبرالي؛ المسيّس المنتمي، مثل المستقلّ الوافد حديثاً إلى السياسة؛ المعتدل أو المتشدد أو الوسطي، المؤمن بسلمية الانتفاضة، مثل ذاك المطالب بحرب العصابات؛ والمقتنع بأنّ ‘المحور الأمريكي ـ القطري ـ السعودي’ يتآمر علينا، مثل ذاك الذي يعتبره أحد منافذ نجاة الشعب السوري من المجزرة المفتوحة التي انقلب إليها سلوك النظام…

هذا ـ على سبيل تذكير الأصدقاء، وليس الخصوم والمنافقين والكذبة ـ هو مجتمع الانتفاضة الفعلي، الحقيقي، الواقعي، غير المجمّل ولا المزوّق ولا المعدّل؛ ولا تنفع أية كيمياء طوباوية في تنقيته إلى صبغة واحدة (بافتراض أنّ التاريخ شهد، ذات يوم، ابتكار تلك الكيمياء، عند أي شعب!). وهذا مجتمع لا يجوز فرزه إلى سلسلة ‘ألوان’، طاغية غامقة هنا، أو كامدة فاتحة هناك؛ على نحو يختزل الزخم الشعبي المعقد ـ والمركّب جداً، كما يتوجب التشديد دائماً ـ إلى ‘فئات’ و’شوارع’ و’أطراف’… يخضع، كلّ منها، للقاعدة المانوية ذاتها، التي تضع الأبيض على نقيض الأسود، والمؤمن بسلمية الانتفاضة في وجه حامل الكلاشنيكوف. وسواء كان هذا على خطأ، أو ذاك على صواب، أو العكس؛ أو كانت معادلة الاتفاق، أو الاختلاف، في منزلة بين منزلتين؛ فإنّ القواعد المانوية هي أسوأ معايير وزن الوطنية عند زيد أو عمرو، وأقلّها اكتراثاً بروح الجدل، خاصة إذا نُظر إلى الانتفاضة على نحو مجرّد تماماً، بمعزل عن الزمن وتحولاته، ودون وضع وحشية النظام الدفاعية في قلب المعادلة، وفي كفّة الميزان.

إلى جانب هذه المسائل، يثير بعض أصدقاء الانتفاضة مشكلة تشرذم المعارضة السورية، بما يوحي أنها لو توحدت فإنّ النظام سيضعف أكثر، أو تخور قواه؛ وأنّ الانتفاضة، في المقابل، سوف يشتدّ عودها، وترتقي، وتتقدّم أكثر في برامجها السياسية والنضالية. صحيح، في القياس المنطقي المبسط، أنّ الوحدة خير من الانقسام، ولكن هل كانت المعارضة/ المعارضات السورية هي مُطْلِقة الانتفاضة في المقام الأوّل، لكي تنقلب إلى رافعة لها اليوم؟ وهل قيادة الانتفاضة الفعلية هي ‘المجلس الوطني السوري’، بمحاسنه ومساوئه، سواء على مستوى هيئاته، أم على مستوى الأفراد فيه، وخاصة ‘نجوم’ الفضائيات وفرسان معارك الديكة واختيال الطواويس؟

الجواب هو النفي، بالطبع، وغالبية المعارضين هرولوا خلف الانتفاضة عند انطلاقتها، فمنهم من لحق بها وانضمّ إلى ركبها، صادقاً أو كاذباً؛ ومنهم من تعثر، أو تقطعت به السبل، فتخلّف، ولكنه ركب الموجة مع ذلك، لأنه رفض أن يقرّ بعجزه.

ويبقى أنّ السلاح معضلة، والتجييش الطائفي والتخويف من الحرب الأهلية معضلة أخرى، وهزال الهيئات التي تزعم القيادة معضلة ثالثة، وتعليق الآمال على أعداء النظام اليوم/ أصدقائه حتى الأمس القريب معضلة رابعة، وموقع سورية الجيو ـ سياسي الخاصّ والحساس معضلة خامسة… ولكن الذين انتظروا أن تسير الانتفاضة ـ في هذا البلد بالذات، ضدّ هذا النظام تحديداً، وسط هذه التعقيدات كلها ـ كما السكين في قالب زبدة؛ هم الجديرون بالتباكي على بورصة سيناريوهات تكهنوا بها، فخاب فألهم. على الأرض يتواصل جدل احتدام المعضلات، والتعقيدات والمصاعب والتضحيات، لكي ينتهي إلى المآل الوحيد الذي لم يعد يصحّ سواه: انطواء صفحة الاستبداد، مرّة وإلى الأبد.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى