صفحات العالم

سورية في لبنان!


الياس خوري

منذ اندلاع الثورة الشعبية السورية والأفق اللبناني يعيش في الالتباس. بيروت دخلت في ما يشبه السبات، الذي لولا شجاعة بعض الشبان، لتحول موتا. الشبان والشابات الذين حاولوا كسر جدار الصمت دفعوا ثمنا غاليا، كانت تجمعاتهم المؤيدة لثورة الشعب السوري تواجه بالقمع عبر آلة من شبيحة النظام السوري في لبنان، التي اعتقدت انها تستطيع ان تقلد جلاوزة الاستبداد السوري، عبر ضرب المعتصمين واهانتهم.

كان الصمت اللبناني الخامل جزءا من لعبة الصراع الداخلي على السلطة الذي له عنوان واحد هو الطائفية السامة والسقيمة. زعماء الطوائف اللبنانية احجموا عن دعم الشعب السوري، لأن الانتفاضة السورية ليست جزءا من قاموسهم السياسي الطائفي كما انها تبدو في دعوتها الى الديمواقراطية والحريات العامة وكأنها نقيض استبداد زعماء الطوائف باتباعهم. الى جانب هذين السببين الاساسيين جاءت عوامل الخوف والحسابات الاقليمية والتحالفات الخارجية، كي تشلّ اي تحرك شعبي لبناني، معلنة ان طائفية الطوائف اللبنانية الكريمة هي العائق الاساسي امام حق المواطن في الدفاع عن كرامته.

لم يعد الانقسام بين تحالفي 8 آذار و14 آذار سوى غطاء شفاف يحاول ان يحجب حقيقة التمزق السياسي اللبناني العالق وسط صراع لا هوادة فيه بين شيعية سياسية بقيادة حزب الله وسنية سياسية بقيادة تيار المستقبل. والطرفان هما جزء من معادلات خارجية تستخدم لبنان في وصفه ساحة، بينما تقوم الطوائف اللبنانية باستخدام وضعيتها التبعية من اجل تحسين شروطها وترسيخ نفوذها في النظام السياسي اللبناني.

بدا لبنان امام عالم عربي ينتفض ضد الاستبداد وكأنه قلعة الاستبداد الأخيرة. اذ اثبت النظام الطائفي اللبناني بتوازنات الرعب التي تتحكم فيه انه الأقدر على القمع، والأشد انسدادا حين يتعلق الأمر بقضية الحرية والدولة الديمقراطية المدنية.

محاولة كسر معادلة الصمت القاتلة هذه لم تأت من اي طرف سياسي لبناني، فقوى اليسار صارت خارج المعادلة واندثر تأثيرها لأنها وجدت نفسها مستتبعة لأحد طرفي الانقسام الطائفي المذهبي، رغم انها حاولت ان تضفي على هذا الاستتباع بعض مساحيق التجميل الايديولوجية، وهي في ذلك تشبه احزاب ما يسمى بالمعارضة في مصر التي تهاوت مع تهاوي نظام آل مبارك.

كسر الصمت جاء من تلاق عفوي بين مجموعة من المثقفين اللبنانيين وبين مجموعات الناشطين الشباب الذين لم يتوقفوا عن الاحتجاج على الرغم من الصعوبات. والالتقاء هذا تم في ساحة الشهداء، حين شهدت بيروت مساء الاثنين 8 آب/اغسطس اول اعتصام تضامني كبير مع الثورة السورية.

اثارت مجموعة اسماء المثقفين الداعين الى الاعتصام والتي جمعت مروحة ضمت مثقفين من اتجاهات مختلفة حيرة الكثيرين. كيف اجتمعت هذه النخبة على دعم نضال الشعب السوري ضد ديكتاتورية الجمهورية الوراثية وما علاقة ذلك بالاصطفافات اللبنانية ذات الطابع الطائفي الصارخ؟

اللقاء الثقافي الذي بدا شبه عفوي، واتخذ طابع الوقفة الاخلاقية ضد القمع الوحشي الذي يتعرض له الشعب السوري، هو نتاج مخاض سياسي وفكري وثقافي طويل، جاء كي يستخلص دروسا من تجربة مريرة عاشها لبنان وسط عاصفة انقسام طائفي كاد يطيح بقيم الحرية والديمقراطية والاستقلال الوطني ومقاومة الاحتلال.

اذا اردنا تحليل معطيات هذا التحرك فعلينا التوقف عند ثلاث نقاط:

النقطة الأولى هي الشعور العارم بعار الصمت، الذي زاد من حدته افراغ النقاش من مضمونه، والنظر الى الثورة السورية من مواقع السلطات الطائفية والمذهبية المختلفة، بحيث امحى الجانب الأخلاقي والمبدئي. اذ ان السكوت عن الجرائم التي يرتكبها النظام السوري مهما كانت الحجج ليس سوى تجسيد للعار الأخلاقي الذي يغرق فيه لبنان.

النقطة الثانية هي الاقتناع بأن الاصطفاف خلف او مع اي من القوى الطائفية صار مستحيلا، لأنها قوى لا سياسة لها سوى سياسة الاستقواء على الآخرين. من هنا بات التمايز عن مختلف تشكيلات النظام الطائفي ضروريا كي لا تنهار كرامة الثقافة اللبنانية وتمرّغ في الوحول.

النقطة الثالثة وتتألف من شقين، الشق الأول هو مشاركة مجموعة صغيرة من سياسيي تيار المستقبل في الاعتصام. والحقيقة ان المنظمين، وانا واحد منهم، لا يستطيعون الاعتراض على مشاركة احد لأن الدعوة كانت عامة، لكن المفاجأة ان قادة هذا التيار، تلطوا خلف دعوة المثقفين، لأنهم يشعرون بالخوف من جهة، ولأن قيادتهم الفعلية في المملكة السعودية لم تحسم امرها من جهة ثانية، ولأنهم اخيرا ارادوا الايحاء بأن لهم علاقة بتحرك لا علاقة لهم به البتة. اما الشق الثاني فيتعلق بحملة الابتزاز حول الموقف من المقاومة، كأن دعم النضال الشعبي السوري من اجل الديمقراطية هو موقف ضد المقاومة! المقصود بكلمة مقاومة هنا هو’ حزب الله الذي اتخذت قياداته موقفا علنيا مؤيدا للنظام السوري! لم يتنبه اصحاب هذا النقد ان المطلوب اليوم ليس موقفا يتخذه المثقفون من حزب الله، بل المطلوب هو موقف حزب الله من الشعب السوري وثورته. وهنا يبرز السؤال، هل تستطيع مقاومة شعبية مقاتلة ان تتخذ موقفا ضد الشعب؟ وما معنى ذلك؟ الا يثير مثل هذا الموقف الكثير من الاسئلة؟ ام ان العلاقات الاقليمية والتوازنات/ الصراعات الطائفية الداخلية هي التي حكمت هذا الموقف؟

خلاصة هذه النقاط الثلاث هي الحاجة الى الخروج، في المستويات الثقافية والفكرية والسياسية، من اسار النظام الطائفي اللبناني بكل اطيافه، الذي هو تجسيد صارخ للاستبداد وآلياته.

ان الموقف من ثورة الشعب السوري ومقاومته البطولية المدهشة لآلة القمع الوحشية هو اليوم المقياس الأخلاقي الاساسي، لأن عودة سورية الى شعبها، لن يزيل الظلم عن السوريات والسوريين فقط، بل سيفتح احتمالات مستقبل المنطقة، حيث تستعيد سورية دورها في قيادة الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي وتعود مسألة تحرير الجولان المحتل اولوية الى جانب تحرير فلسطين.

غير ان ما كشفه الصمت اللبناني هو ان صوت الحرية في لبنان مرهون بقدرة القوى المعارضة للنظام الطائفي على بناء موقعها، وبلورة خطاب فكري وسياسي مستقل، يكون جزءا من الثورات العربية من جهة، ويشكل اطارا لاستعادة زخم الحملة من اجل اسقاط النظام الطائفي اللبناني، من جهة ثانية.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى