صفحات سورية

سورية: قوائم العار والمحاكم وخروج اليمائم


إنانا الهادي

‘على رأس قائمة العار أدونيس وسليم بركات.. ‘ كتب مدون سوري، وتابع معللا: ‘الأول لأنه يسوق كلام الإعلام السوري عن السلفية.. والثاني لأنه صامت صمت القبور’.

ويعلن مدون آخر: ‘دريد لحام يتصدر قائمة العار السورية’.

ويقترح آخرون نزيه أبو عفش وميشيل كيلو وفراس السواح.

وعندما يعترض مدون على إدخال فراس السواح يتدخل مدون آخر، وبنزاهة مهنية عالية وبعيدة عن كل ادعاء يحتج: ‘يعني وليش عاطين فراس السواح كل هالقيمة؟ أنا من حمص ولم أسمع به إلا من خلال الثورة وتهجمه على المظاهرات’.

واكبت قوائم العار مسيرة الربيع العربي وجولاته في البلدان العربية وما زالت تتوسع وتتمدد محملة بتهديد المدونين بأن هناك المزيد من الأسماء والقوائم قيد الإنشاء والصدور. احتوت القوائم الأولى سياسيين ونشطاء وشيوخا ثم بدأت تحوي بطاركة ومثقفين وصارت بالتدريج تركز على الكتاب والشعراء والمفكرين والفنانين. بعض هؤلاء دخل القوائم لأنهم فعلوا شيئا أو قالوا شيئا ودخلها آخرون لأنهم صامتون لايفعلون شيئا ولايقولون.

مع وصول أصحاب القوائم أوأصحابهم إلى دوائر القرار السياسية والإعلامية بدأت القوائم تتحول إلى محاكمات وأبدت ‘مراسلون بلا حدود’ قلقها من أن مقالا قد يؤدي بصاحبه إلى السجن في البلدان التي حل فيها الربيع. وبدأ المثقفون التونسيون والمصريون يخوضون معارك حامية ضد قرارات السجن والاعتقال والتغريم التي صدرت ضد ممثلين ومخرجين وكتاب وإعلاميين بتهمة ازدراء الدين والمس بالمقدسات.

مع نهاية الألفية الثانية اجتاحت العالم العربي الثورة المعلوماتية التي أخذت في طريقها كل الحواجز والحدود وبدأ زمن الإنترنت والقنوات الفضائية مؤذنا بإنهاء القرن الذي حفل باغتيال الكتاب ونفيهم وتشريدهم ومصادرة كتبهم بتهمة التعدي على المقدس. انصرم القرن الذي فيه منعت دول عربية كتب محي الدين بن عربي وإدوارد سعيد وصادق جلال العظم وحيدر حيدر والطيب صالح وقصائد نزار قباني ومحمود درويش وأغاني مرسيل خليفة ومجلة شعر. وبدا وكأن مهنة الرقيب أوشكت على الانقراض وكسد سوقها وأن الرقباء يدورون في سوق البطالة باحثين عن عمل. وأن كابوس الرقباء الذي رزح على صدر الثقافة العربية لعقود قد انتهى عندما أصبح من السهل تحميل الأغاني والمطبوعات والكتب الجديدة والتراثية والممنوعة بضغطة زر على لوحة مفاتيح الحاسوب.

انصرم القرن الذي سيق فيه طه حسين إلى المحكمة بناء على التهم ذاتها وقام اتحاد الكتاب العرب الذي أثار غيظ المصريين بانتقاله إلى دمشق بتدشين عهده الجديد بفصل أدونيس فاستحق اتحادنا عن جدارة شماتة جابر عصفور الذي قال: هنيئا للسوريين باتحاد كتاب ليس فيه أدونيس.

وبدا لوهلة أن صفحات التواصل الاجتماعي سوف ترسخ تقاليد التواصل والحوار وحرية الرأي وسماع الصوت الآخر المختلف، ولكن سرعان ما أخذت بالتدرج تعيد إنتاج البنى التي تثور ضدها.

قوائم العار العربية والمحاكم تعيد إلى الأذهان اليوم كل التجارب العربية والعالمية في الإرهاب الثقافي التي عرقلت مسار الإبداع الانساني ومساهمته في بناء الأوطان والمواطنين، ودمرت الحياة المهنية للعديد من المثقفين حول العالم. تتصدر التجارب الأمريكية في الإرهاب الثقافي المحاكم المكارثية الشهيرة التي بدأت بما سمي بالقوائم السوداء والتي ضمنها مكارثي أسماء الذين تم تصنيفهم بالمشكوك في ولائهم لأمريكا أو الذين يقومون بنشاطات معادية لها. ساق مكارثي إلى محاكماته شارلي شابلن و جون شتاينبك وآرثر ميلر وأرنست همنغواي صاحب جائزة نوبل الذي انتحر بعدما فاقمت المحاكمات أزمته النفسية. بعد سنوات وجهت تهم مماثلة للفنانين المناهضين للحرب منذ حرب فيتنام وحتى حرب العراق، وجرت الحملات الرسمية الشهيرة في تشويه السمعة والتي لاحقت لسنوات مشاهير الفنانين مثل جين فوندا.

وقادت القوائم الجدانوفية العديد من المبدعين السوفييت من كتاب وشعراء وفنانين إلى مصائر مشابهة بتهم خيانة الثورة وعدم الالتزام. على يد جدانوف وقوائمه انتحر ماياكوفسكي ويسنين لأنهما لم يلتصقا بالشعب بشكل كاف ولم يحصرا قصائدهما في الدعاية للثورة، وانتحرت آنا أخماتوفا التي اتهمت بأن قصائدها في وصف الطبيعة والريف الروسي لا تطابق قوانين الأدب الملتزم.

ما زالت قوائم الإدانة الالكترونية العربية تتلاحق لاهثة محمومة تحت مسميات مختلفة وقد صدرت قوائم خاصة بالمقيمين في بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، وساندها الاعلام المطبوع فظهرت مقالات كثيرة في الصحف العربية تستنسخ العار العربي.

وفي الحماس المحموم لإنتاج القوائم تضامن بعض الذين لم يجدوا ما يكفي من العار لدى مواطنيهم وتنكبوا مهمة إنتاج قوائم عار لمثقفي الدول العربية الشقيقة. ثم صدرت قوائم تبحث في الخلفية المذهبية لمشاهير الكتاب والفنانين العرب، الأحياء منهم والأموات، لإلقاء المزيد من الضوء حول حقيقة ولاءاتهم. وعاد الجدال القديم بين المدونين من جديد حول ديانة ليلى مراد وكيف يجب تصنيفها الآن. وظهر نزار قباني شاعر دمشق الذي مات حنينا إليها على القائمة فلسطينيا شيعيا. التهمة الأولى لأنه كان شديد الحماس لفلسطين والثانية لأنه اخترق المحظورات وركز على المرأة. جدال يعيد إلى الذاكرة التهم التي أخرجت السلطة الدينية على أساسها عمه أبوخليل قباني ومسرحه من دمشق ليؤخر خروجه ظهور المسرح السوري ويبتر مسار النهضة العربية في عاصمتها الأولى دمشق فتخرج معه إلى مصر التي احتضنتها وقدمتها للعالم.

على الموقع الذي يحتوي مقالاته، يخرج ميشيل كيلو وهو يتكلم بأسى عن اللافتات والهتافات التي تنادي بإسقاطه ورفاقه الذين صنعوا ربيع دمشق قبل اثني عشر عاما. يخرجون ويخرج معهم جزء من ربيع دمشق.

يخرج أدونيس ويخرج معه جزء من الحداثة العربية ومن صديقه إدوارد سعيد الذي قال إن مشروع الحداثة العربية مرتبط بأدونيس الذي يقوده.

يخرج فراس السواح وتخرج معه العقلانية والعلمانية ومغامرات العقل في البحث عن الحقيقة ومفاتيح الألغاز التي حيرتنا.

ويخرج دريد لحام ويخرج معه المسرح السياسي ومسرح الاحتجاج منذ مسرح الشوك حتى آخر كلمة لمحمد الماغوط.

ويخرج نزيه أبو عفش وتخرج معه قصائده منذ ‘من أين يأتي كل هذا الصبر كي نبقى على قيد الحياة’ والتي لعلها استطاعت ولو قليلا تأجيل الموت المبكر لفواز الساجر الذي عشقها واستلهمها.. حتى آخر يمامة في الأسراب التي غطت سماء بيروت عندما كان أبو عفش في مسرح المدينة يهدل ‘عام اليمام’.

‘ أكاديمية سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى