صفحات سورية

سورية ليست كغيرها… بالتأكيد!

 


محمود ماهر الزيبق

كان العنوان الأهم في حديث الرئيس الأسد لصحيفة ‘وول ستريت جورنال’ أثناء موجة الاحتجاجات العربية ‘سورية ليست كغيرها’. وخلافا لما يظنه البعض فإن أحدا من السوريين لم يخالف في صحة هذه العبارة.. لا أعني من حيث قدرة الشعب على الانتفاض والمطالبة بالحرية والكرامة، فاحتجاجات الشارع تتحدث عن نفسها، ولكن من حيث الظروف التي تعيشها سورية، ولذلك أفصل في ما سيأتي بعض الفوارق التي تميز بلادنا عن غيرها.

تسيطر الاجهزة الأمنية في سورية على كل مفاصل الحياة ومنها القضاء، الذي تتولى فيه ‘فعليا’ أمور التعيين والعزل والنقل، ويكفي ان نشرح هذا بأن أكبر سجناء العالم سنا هو القاضي الثمانيني هيثم المالح، الذي أفرجت عنه السلطات السورية قبل فترة، على وقع الاحتجاجات.

في مصر مثلا كان المواطنون يضعون كتاباتهم ورسوماتهم على الدبابة ويلتقطون الصورعلى جنباتها، بينما تظهر مقاطع الفيديو أبناء درعا يرجمون دبابات الفرقة الرابعة بالحجارة، لا لاختلاف نوع الدبابة، وإنما لاختلاف مهمتها بين حماية المواطنين أو قمعهم، وطبعا تحكي هذه الصورة هيمنة الأجهزة الأمنية على الجيش أيضا.

في سورية تقتل قوات الأمن من يرفض إطلاق النار على المتظاهرين من عناصر الجيش ثم تمشي لهم في جنازات عسكرية مهيبة مصورة محفوفة بالأرز والزهور، لتثبيت ادعاءاتها عن المندسين، ويكفي جوابا ان تعرفوا أن شرارة الاحتجاجات في قرية ‘مضايا’ انطلقت في جنازة ابنها الجندي مراد حجو، الذي استشهد على أيدي الأجهزة الامنية لرفضه أوامر إطلاق النار على المدنيين.

عندما يقتلع رئيس الأمن السياسي في درعا (ابن خالة الرئيس) أظافر الأطفال ويؤخر الإفراج عنهم طمعا في أن تنبت لهم أظافر جديدة، ويظهر رئيس الأمن السياسي في بانياس مع عناصره في فيلم تعذيب إجرامي لمواطني البيضاء، يعاقب الاثنان بالنقل إلى أماكن أخرى لممارسة أدوار سادية جديدة.. ويبقى للإصلاح أن ينتظر جريمة جديدة لمريض سادي جديد من أجل عقوبة جديدة ونقل جديد!.. وحين يشتكي الناس من هيمنة هذه الأجهزة القمعية يأتيهم الإصلاح بوزير داخلية من أبنائها وهو مدير سابق لسجن سيئ الصيت ويستبدل المحافظون المدنيون في اللاذقية وحمص ودرعا بثلاثة من ضباط الجيش السابقين برتبة لواء ضمن حملة واسعة للاصلاح!

الخلاصة أن للأجهزة الأمنية في سورية قانونا واحدا يحكم عملها اسمه ‘اللا قانون’، ولذلك لن يضيرها في شيء رفع حالة الطوارئ من عدمه.. لأنه لا يقترب أبدا من قانونها!

ليست في سورية أية نقابات او اتحادات مستقلة، بل تسيطر الأجهزة الأمنية عليها كلها باسم حزب البعث.. يدخل الطفل المدرسة الابتدائية ليكون واحدا من ‘طلائع البعث’ ثم يتابع دراسته الانتقالية عضوا في ‘شبيبة الثورة’ وله أن ينتسب في المرحلة الجامعية إلى فرع مخابرات اسمه ‘اتحاد طلبة سورية’، ثم له أن ينتقي من النقابات والاتحادات ما يناسب دراسته.. تتعدد اختصاصات النقابات ومضامينها، إلا أن صور اجتماعاتها وسبل عملها واختيار قياداتها لا تختلف كثيرا عن’ طلائع البعث’.. ربما لربط الحاضر بالمستقبل! وتنحصر مهمة ما يسمى ‘اتحاد الصحافيين’ في سورية بالدفاع عن النظام لا عن أعضائه من الصحافيين الذين تغص بهم السجون.

سورية هي البلد الوحيد الذي يهتف فيه التلاميذ مرغمين بـ’الحرية’، كل صباح ضمن شعارات حزب البعث ثم تصبح هذه الكلمة تهمة يزج بالسجن كل طفل يهتف بها خارج المدرسة.

‘الشبيحة’ هم فئة معروفة من المرافقين الخاصين للطبقة الحاكمة وعائلاتها ‘بودي غارد’ ولها تاريخ طويل في النهب والقتل والسطو المسلح، من دون حساب او عقاب لأنها محمية بسادتها، ولذلك حاول أزلام النظام بداية التذرع بأنها زالت منذ زمن ثم تجاهلوا المصطلح حين اخطأت بعض وسائل الاعلام العربية في تعريفه على انه ‘بلطجية’، لأن وصف ‘بلطجية’ عام يخالف الوصف الخاص ‘للشبيحة’. يشترط لدخول صالات الانترنت العامة في سورية إبراز الهوية وتسجيل بياناتها في سجل دقيق تابع للمخابرات، وفي كل جهاز من اجهزة مقهى الانترنت برنامج تجسس موصول بفروع الأمن لتسجيل كل البيانات الشخصية وكلمات المرور، وهذه أيضا إحدى براءات الاختراع الحصرية عالميا، وفي حال لم يلتزم صاحب المقهى بتسجيل البيانات أو تثبيت برنامج التجسس، فلأهله أن يتهيأوا في البحث عنه في أقبية الفروع الأمنية.

لا تستطيع كسوري ان تدخل الحدود السورية عقب رفع حالة الطوارئ مع حاسب شخصي محمول، إلا أن تذهب إلى غرفة خاصة يتم فيها تفتيش حاسبك والبحث فيه عن كلمات مشبوهة كـ’الثورة’ والويل والثبور إن لم تعترف بحسابك على الفيس بوك ليبحثوا في صفحتك الشخصية عن أي تأييد لصفحات الاحتجاجات.. أما أهل درعا فلهم معاملة خاصة على الحدود يجبرون فيها على التوقيع والبصم على أوراق تعهد بعدم المشاركة في الاحتجاجات!

بالطبع لست بحاجة للسفر حتى يتم تفتيش جوالك، فمفارز البحث عن صور المظاهرات في الجوالات تحيط بكل مناطق الاحتجاج، أما جهاز البلاك بيري وخط الثريا فكلاهما تهمة مستقلة بذاتها من دون حاجة لقرينة من صور المظاهرات!

تمنح التراخيص للقنوات والوكالات الإعلامية في سورية بشرط ألا تقوم هذه المكاتب بشيء من عمل الصحافة أو الإعلام، وفي حال أدوا شيئا من هذا الإخلال بالأمن ‘لا قدر الله’، فمن الطبيعي أن يكون الإيقاف والطرد بالمرصاد، كما حصل مع مراسل رويترز وغيره، ولذلك فإن الصورة الحصرية للاحتجاجات إلى يومنا هذا هي للجوالات، ولم تظهر صورة كاميرا تلفزيونية واحدة!.. فضلا عن ذلك فإن الـ(DTL) البث المباشر بالصوت والصورة عبر الأقمار الصناعية للمقابلات التلفزيونية محصور منذ بدء الاحتجاجات بمن يؤيدون النظام وينتهجون نهجه، والأمر لا يقتصر على قنوات ‘بي بي سي’ و’فرانس’ و’العربية’ التي تعتبر التلفزيون الرسمي الناقل الحصري لـ(DTL) بالنسبة لها، وإنما يتعداه إلى المكتب الوحيد الذي يملك ميزة البث المباشر، وهو مكتب قناة ‘الجزيرة’، إذ لا يظهر منه بالصوت والصورة إلا مؤيدون للنظام، أما من يتحدث بلغة إصلاحية في الداخل فلا يسمح بخروج صوته لجميع لقنوات إلا عبر الهاتف بصوت رديء وهو عرضة للاعتقال بعد مكالمته بقليل، كما حصل مع فايز سارة وعماد الدين رشيد وغيرهما كثير.

في كل حوار لأحد منظري النظام مع قنوات فضائية عربية هناك عبارتان تشكلان لازمة هذا الحوار؛ الأولى اتهام هذا المنظر للقناة أيا كانت جهتها بالتجييش والتضخيم وربما العمالة، والثانية رد القناة بسؤال عن سبب منع الاعلام في سورية من متابعة الحدث!

جميع منظري النظام يفتتحون حديثهم على القنوات بالإقرار بشرعية مطالب المحتجين للظهور بثوب الإنصاف، ثم يكملون الحديث بشرعية قمع النظام للمحتجين!

الجواب الغالب على حديث المنظرين عن مبررات القمع والقتل هو ‘سورية دولة ممانعة وصمود’، وهو ما يذكرنا بقانون الطوارئ الذي كانت ذريعته اننا في حالة حرب مع الكيان الاسرائيلي، ومع ذلك فقد دخلت الاجهزة الاسرائيلية إلى الداخل السوري وقتلت الشهيد عماد مغنية في دمشق واللواء محمد سليمان في الساحل وفجرت إحدى حافلات النقل في البرامكة وقصفت مباني قيل انها مفاعلات نووية في أقصى الشرق، وكل ذلك من دون أن تفلح حالة الطوارئ بالقبض على عنصر واحد من الاسرائيليين او موسادهم، بينما نجحت بزج ألوف من أصحاب الرأي السوريين في أقبية الطوارئ وكثير منهم اليوم في عداد المفقودين.

وفي جملة حديثهم يحاول منظرو النظام الإشارة الى أن للمقاومة داعما وحيدا هو النظام السوري، وأن تهديده بالاحتجاجات زوال للمقاومة وفي هذا ازدراء واتهام لكامل الشعب السوري الحاضن الشعبي للمقاومة على مر العقود الماضية، وكأن أي تغيير في سورية ينتقل بها إلى حكم مبني على قاعدة من هذا الشعب يعني نهاية المقاومة!

كما يكرر هؤلاء المنظرون تحذيراتهم من مخاطر طائفية تتهدد سورية ونشر فوبيا مفادها أن الاصلاح او التغيير سينتهي حتما بجمهورية لـ’القاعدة’ على طريقة القذافي أو حرب طائفية تباد فيها طوائف بأكملها وتنصب فيها معارك عمياء للثأرمن جرائم الماضي، وهم بذلك يزدرون الشارع السوري مرة أخرى، الذي عايش بكل طوائفه تجارب القمع والفقر والظلم، وهو يقف في وجهها اليوم صفا واحدا في هتافاته وشعاراته.. ويكفي أن بيانات الاصلاح ورفض القمع تصدر ممهورة بتوقيع المثقفين من كل الطوائف ممن يقتسمون كل شيء حتى الشهادة وسجون القمع.

في بلادي وحدها تنتظم مصطلحات (سلفية ـ استخبارات اسرائيلية ـ تيار المستقبل ـ بندر بن سلطان ـ منظمات فلسطينية ـ سياسة أمريكيـــــة ـ عبد الحليم خدام ـ رفعت الأسد ـ الاخوان المسلمين) في عقد واحد يتآمر مطالبا بالاصلاح وتغص السجون بالمثقفين بتهمة ‘السلفية’ بمن فيهم جورج صبرة، ويكتشف البعث مؤخرا أن معظم أعضائه الذين تتوالى استقالاتهم رفضا للقمع.. كانوا أيضا سلفيين! وكان آخر الشهداء السلفيين في دوما هو المسيحي حاتم حنا!

في بلادي الرائعة المسالمة، ورغم كل ما ذكرته أعلاه أكرر مع غيري من الصحافيين والمثقفين في المقالات والبيانات دعوات للحوار الشامل والاصلاح وللنظام جواب واحد مستمر عليها هو جنائز الشهداء وظلمات السجون.

في بلادي اكتشف السوريون مؤخرا أن للجوال حالات هي (عام ـ صامت – اجتماع..) وللمسنجر حالات ( متصل ـ مشغول ـ غير متصل..)، ولم يكن في كلاهما حالة اسمها (خائف) مع ان النظام حاول إيهامنا لعقود بأنها الحالة الأساسية التي يجب أن تسيطر على أحاديثنا وكلماتنا.. النظام الذي لم يعر اهتمامه يوما لجنائز الشهداء لم يبصر أن جنازة الخوف قد شيعت إلى غير عودة في سورية مع أول قطرة دم سالت في سبيل الحرية.

‘ كاتب صحافي من سورية

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى