صفحات سورية

سورية.. ليس في كل مرة تسلم الجرة!

 


كان الاعتقاد السائد، قبل الانفجارات الشعبية الأخيرة التي بدأت في درعا وانتقلت إلى عدد من المدن السورية الأخرى، من بينها دمشق نفسها، أن سورية لن يغشاها هذا الـ«تسونامي» الثوري، الذي ضرب ولا يزال يضرب عددا من الدول العربية، وأنها بحكم عوامل كثيرة ستبقى بعيدة عما جرى في تونس وفي مصر وما يجري في ليبيا، ولقد شاركت في هذا الاعتقاد، بالإضافة إلى متابعين من هذه المنطقة، مراكز دراسات أميركية وبعض الدوريات المعروفة.

وبالإضافة إلى هذا، فإن الذين كانوا يستبعدون وصول عدوى الانفجارات الشعبية و«الفوضى الخلاقة» إلى سورية كانوا يقولون إن هذا البلد محصن بأوضاع اقتصادية مريحة وببعض الانفراجات المهمة في مجال الحريات العامة والتساهل السياسي، قياسا بما أصبح عليه الوضع في عهد الرئيس الحالي بشار الأسد وبما كان عليه في عهد والده، لكن ثبت أن هذه التقديرات كلها، على أهميتها، لم تأخذ بعين الاعتبار ذلك المثل القائل: «من مأمنه يؤتى الحذر»، وأن أصحابها لم يدركوا أن الهدوء في الكثير من الأحيان يكون مقدمة لعاصفة عاتية هوجاء وأن انتفاضات الشعوب تأتي في العادة مفاجئة ومباغتة وهذا هو الذي حدث في مصر وقبل ذلك في تونس، وهو ما يحدث الآن في اليمن وهو سيحدث بالتأكيد في دول عربية أخرى.

بقيت سورية في سنوات سابقة تتعرض لهبات شعبية مفاجئة، من بينها أحداث حماة الشهيرة، لكنها ولأن الظروف كانت تختلف عن هذه الظروف فإنها كانت تقضي على تلك الهبات باستخدام القوة المفرطة وكان المبرر الذي يساق دائما وأبدا لإخراس الأصوات المعترضة أنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وأن المواجهة المفتوحة مع «العدو الصهيوني» تقتضي استمرار الحكم الشمولي وتقتضي الاستمرار بحالة الطوارئ وبالأحكام العرفية وتقتضي أيضا مواصلة اعتبار الديمقراطية ترفا «برجوازيا» لا الوقت وقته ولا ضرورة له.

وحقيقة أن الذين كانوا يرون هذا الرأي وكانوا يستبعدون وصول هذا الـ«تسونامي» الثوري إلى سورية؛ لأن هناك طائفة حاكمة متماسكة، ولأن هناك جيشا لم يعد هو جيش الانقلابات العسكرية السابقة، ولأن هناك أجهزة أمنية محترفة ومتغلغلة في الجهاز العصبي للشعب السوري، قد غاب عنهم أن الثورات الشعبية لا تقاس بهذه المقاييس وأن أهم الثورات التاريخية هي التي انتصرت على أنظمة كان هناك اعتقاد أنها متمكنة ومسيطرة، ثم إنه مخطئ، حتى آخر حدود الخطأ، من يعتقد أن الطائفة العلوية موحدة وأنها على قلب رجل واحد هو الرئيس بشار الأسد، الذي ووجه تبوؤه موقع الرئاسة خلفا لوالده بالرفض والممانعة حتى من قبل عمه رفعت الأسد الذي اضطر إلى المغادرة والمعارضة من الخارج.

هناك تيارات سياسية مختلفة في الطائفة العلوية، وهناك انحيازات حزبية واختلافات حول هذا النظام، الذي يعتبره البعض نظام هذه الطائفة، ولعل ما هو غير معروف هو أن اللواء صلاح جديد، الذي كان الرقم الرئيسي في معادلة الحكم والحزب بعد حركة 23 فبراير (شباط) عام 1966 إلى حين انقلاب حافظ الأسد عليه وعلى الحزب في عام 1970، قد سكت على اغتيال شقيقه غسان جديد الذي كان قوميا سوريا، والذي اعتبر المسؤول عن اغتيال الضابط البعثي الصاعد عدنان المالكي، الذي – بعد اغتيال هذا الضابط – أقام له رفاقه تمثالا لا يزال منتصبا في قلب دمشق، اضطر إلى الفرار إلى بيروت؛ حيث اغتيل هناك على أيدي مجموعة بعثية من رفاق شقيقه صلاح، الذي توفي في سجن المزة بعد «الحركة التصحيحية» التي قادها حافظ الأسد وبعد أن قضى في هذا السجن أكثر من ربع قرن.

لهذا فإنه لا يمكن النظر إلى موجة «تسونامي» السياسية هذه التي بدأت تغشى سورية من زاوية أن هناك طائفة علوية متماسكة تحرس النظام؛ فهذه الطائفة جزء من الشعب السوري وقد لحقها في عهد هذا النظام ما لحق هذا الشعب من خير ومن شر، والدليل هو أن الضابط المميز محمد عمران، الذي كان أحد أركانها الأساسيين، قد تم اغتياله في طرابلس في الشمال اللبناني في بدايات سبعينات القرن الماضي من قبل مجموعة فلسطينية محسوبة على دمشق، وأن القائد البعثي الطليعي الدكتور إبراهيم ماخوس لا يزال يعيش لاجئا ومنفيا في الجزائر منذ عام 1970 وأن آخر ضحايا هذا النظام من أبناء هذه الطائفة، حسب بعض الأوساط، هو الجنرال غازي كنعان الذي كان المندوب السامي السوري في لبنان لسنوات طويلة.

إن هذه هي حقائق الأمور، لكن، مع ذلك، فإن هناك شعورا لدى الغالبية السنية بأن هذا النظام هو نظام الطائفة العلوية وأن هناك استحواذا من قبل أبنائها على الحكم وعلى مقدرات البلاد يقابله إقصاء وتهميش للآخرين وهذا يظهر بوضوح في منطقة حوران (درعا)، التي يرى البعض أن لها ثأرا مع «الحركة التصحيحية» يتمثل في القضاء على الجنرال أحمد سويدان ثم على رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي وعلى محمد الزعبي الذي يعيش الآن أستاذا جامعيا في المنفى وأيضا على حبيب حداد اللاجئ حاليا في الولايات المتحدة الأميركية، ويظهر أيضا بوضوح أكثر في منطقة دير الزور التي من رموزها الذين تم إقصاؤهم كل من: مصلح سالم والدكتور يوسف زعين ومحمد عيد عشاوي ورياض حداوي وغيرهم.

لكن على الرغم من هذا كله وعلى الرغم من أن هناك جرحا عميقا هو جرح «حماة» الشهير، فإن مما لا شك فيه ولا يجوز إنكاره أن هذا العهد قد شهد تطورات ملموسة في مجالات كثيرة، من بينها مجال الحريات العامة ومجال تحسن الأوضاع الاقتصادية، لكن هذه التطورات في ظل هذه الموجة العاتية التي تجتاح الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه باتت تبدو قاصرة وغير كافية إزاء استمرار حالة الطوارئ واستفحال الاحتقان وتفاقم المشكلات الاقتصادية وازدياد الشعور بالإقصاء والتهميش من قبل الأكثرية التي أظهرت أحداث درعا الأخيرة أن مطالبها لن تقف عند مجرد الإصلاح ومجرد التغيير المحدود وأنها ستتعدى هذا كله لرفع شعار التخلص من النظام نفسه، وحقيقة وبالإضافة إلى هذا كله فإن هذه الأكثرية تحمِّل نظام الرئيس بشار الأسد مسؤولية مشكلة لبنان واغتيال الحريري ومساندة حزب الله والتحالف مع إيران ومشكلة الأكراد وبقاء الجولان محتلا حتى الآن، وهذا كله يشكل وقودا لاستحقاقات صعبة متوقعة. والسؤال هنا: هل بإمكان نظام الرئيس بشار الأسد، يا ترى، استيعاب هذه الموجة العاتية التي باتت تضرب المنطقة كلها، كما استوعب نظام والده توترات داخلية كثيرة؟

والجواب هو أن كل شيء جائز.. لكن هذا يحتاج إلى معجزة، وهذه المعجزة تتمثل في فرط بنية النظام كله وإعادة تركيبه من جديد على أسس غير هذه الأسس ووفقا للتعددية الحزبية الفعلية والعودة إلى الحياة البرلمانية السابقة القديمة، وهذا كله مع اقتفاء تجربة دول أوروبا الشرقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ومع التخلص من التحالف مع إيران والتوقف عن دعم حزب الله ونفض اليد من المشكلة اللبنانية وحل المشكلة الكردية، ويبقى أنه لا بد من القول للذين يمسكون بزمام الأمور في هذا البلد العزيز الذي هو قلب العروبة النابض بالفعل: ليس في كل مرة تسلم الجرة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى