ابراهيم حميديصفحات سورية

سورية مناطق نفوذ … وإيران تلوّح بـ “الخطة ب”/ إبراهيم حميدي

 

 

أكثر ما لفت الانتباه في معارك المعارضة السورية للسيطرة على مناطق مدنية وحصون النظام العسكرية في إدلب وريفها،عدم مشاركة الميليشيا الإيرانية ومسلحي «حزب الله» في التصدي لهجمات الفصائل الإسلامية، وترك الجيش النظامي و«قوات الدفاع الوطني» الموالية وحيدة تحت ضربات مقاتلي المعارضة المعززين بتنسيق إقليمي أكبر وذخائر وأسلحة نوعية دفعتهم إلى الاتحاد في «جيش الفتح» وتزخيم الخبرة القتالية المتراكمة خلال السنوات الأربع الماضية.

هذا التخلي الإيراني عن القوات النظامية في شمال سورية قرب حدود تركيا، جاء بعد أيام من انخراط علني ضم آلاف العناصر من «الحرس الثوري الإيراني» والميلشيا الشيعية والسورية وخصوصاً الأفغانية في معارك «مثلث الجنوب» بين أرياف دمشق والقنيطرة ودرعا بين العاصمة والجولان المحتل والأردن. وتزامن الانخراط العلني مع حديث إيراني عن «دور قيادي» بالتزامن مع اقتراب المفاوضات مع الدول الكبرى من الحلقة الأخيرة لعقد مسودة الصفقة النووية، وكأن طهران أرادت القول: التخلي عن البرنامج العسكري مقابل تفويض بدور قيادي في الشرق الأوسط بحيث تكون إيران «اللاعب» في المنطقة والضامن لأمن إسرائيل عبر بوابة الجولان والضاغط على أمن الخليج من بوابة الأردن.

فوجئت طهران بأن لتقدمها حدوداً في الأراضي السورية، وبأن لصبر دول إقليمية كبرى حدوداً أيضاً. أولاً، تمكن مقاتلو «الجيش الحر» من صد الهجوم في جنوب سورية قبل انتقالهم الى الهجوم والسيطرة على مدينة بصرى الشام التي كانت أحد معاقل «الحرس الثوري» ثم السيطرة على معبر نصيب آخر بوابات الحدود بين الأردن وسورية. أما المفاجأة الثانية، فكانت في الشمال الغربي، عبر سيطرة المعارضة على مدينة إدلب ثم مدينة جسر الشغور ثم موقع معمل القرميد وانكفاء قوات النظام المدعومة بأكثر من ٨٠٠ غارة خلال ثلاثة أسابيع، الى ريف جسر الشغور ومعقل النظام في الساحل.

ولا تكمن أهمية هذه الانتصارات لمقاتلي المعارضة في الاستيلاء على مواقع مدنية وعسكرية فحسب، بل في مغزاها السياسي، فهي تضمنت للمرة الأولى تجاوزاً لـ «خطوط حمر» كانت مرسومة ومتفاهماً عليها بين اللاعبين الإقليميين والدوليين في سورية. فقد كان «ممنوعاً» أن يسيطر مقاتلو المعارضة على حدود الأردن لأسباب عدة أحدها أن عمان كانت دائماً تريد ترك «شعرة معاوية» مع النظام السوري. وكان «ممنوعاً» أن يسيطر مقاتلو المعارضة على قــرى شيعية أو الاقتراب من قرى علوية لإبقاء «أمل بحل وطني» في سورية. كذلك، كان «ممنوعاً» دخول المعارضة المدن الكبرى بعد سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) على الرقة شمال شرقي سورية والانقسام إزاء تقاسم السيطرة على حلب.

وللدلالة على مدى ارتباط المعارك المحلية بالقرارات الإقليمية والدولية، تكفي الإشارة إلى كيفية تمهيد الطريق لخروج الترسانة الكيماوية من الأراضي السورية والمرور عبر أراض خطرة تتقاسم المعارضة والنظام السيطرة عليها، إلى الموانئ السورية غرب البلاد. فقد قطعت الحاويات الكيماوية مئات الكيلومترات من دون أن تتعرض لأذى.

معركة دمشق

في نهاية ٢٠١٢ وبداية ٢٠١٣، كان النقاش بين القادة الغربين والعرب حول نقطة أساسية: هل يدخل مقاتلو المعارضة العاصمة بعد الإعلان عن «معركة دمشق»؟ النتيجة التي وصل إليها النقاش والتفاهمات الكبرى هي ضرورة عدم تكرار نموذج العراق وأنه لا بد من الحفاظ على البقية المتبقية مما يربط سورية بعضها ببعض وبقاء ما تبقى من مؤسسات الدولة والسلطة المركزية بما أن الهدف هو الوصول إلى حل سياسي تفاوضي في نهاية المطاف. كما أن طهران أبلغت من يعنيه الأمر وقتذاك أن دمشق «خط أحمر» وأن طريق دمشق- بيروت «خط أحمر»، ما يفسر كيف بقيت دمشق بمنأى من الصراعات وكيف بقي الطريق بين العاصمتين السورية واللبنانية آمناً رغم كل الاضطرابات. فكانت الرئة للنظام إلى الخارج وخط الإمداد بين «حزب الله» والنظام.

بعد تجاوز «خطوط حمر» عدة، فإن أول سؤال يطرح عن احتمال كسر أحد آخر المحرمات، وهو دخول مقاتلي المعارضة دمشق، ما يتطلب مراقبة نتائج زيارة قائد «جيش الإسلام» زهران علوش حاكم مدينة دوما شرق دمشق، إسطنبولَ ومشاوراته الإقليمية في الخليج. أما الثاني، فهو ما إذا كانت الوجهة المقبلة لـ «جيش الفتح» ستكون الريف العلوي في اللاذقية وطرطوس في شمال غربي البلاد أم مدينة حماة في وسط البلاد.

سورية في سباق بين مسارين: الحل السياسي ومناطق النفوذ. يقوم الخيار الأول على صرف تغيير المعادلة العسكرية في سورية جنوباً وشمالاً على المائدة السياسية وانتهاء الركود منذ فترة طويلة بجلب الأطراف المحليين الى طاولة التفاوض، ما يفسر تسابق القاهرة وموسكو والمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا على استضافة لقاءات بين أطراف المعارضة أو بين ممثلي النظام والمعارضة، على أمل إعادة الجميع الى طاولة التفاوض بعقد «جنيف-٣» في مناسبة الذكرى الثالثة لصدور البيان في نهاية حزيران (يونيو) ٢٠١٢. وبين هذا وذاك، تجري محاولات جدية لعقد مؤتمر لشخصيات معارضة، يتضمن الاتفاق على أطر ومبادئ تفاوضية لتشكيل هيئة حكم انتقالية.

الخيار الثاني هو تقسيم سورية مناطقَ نفوذ إقليمية بغطاء دولي. ربما ما يفسر عدم انخراط إيران في معارك الشمال السوري، كما انخرطت و«حزب الله» في السنتين الماضيتين في معارك حمص والقلمون والقصير وأطراف دمشق، هو بدؤها العمل على «الخطة ب» طالما أن «الخطة أ» القائمة على استعادة النظام السيطرة على كل سورية وفرض تسوية سياسية بخطوات تجميلية تحافظ على هيكلية النظام الداخلية وتحالفاته الإقليمية، لم تعد واردة. وتقوم الخطة البديلة على إحكام السيطرة على القوس المفيد الممتد من دمشق إلى القلمون وحمص وطرطوس واللاذقية مع إمكان ترك ممر آمن إلى العراق، ما يحقق الأهداف الوظيفية لـ «سورية المفيدة» بالنسبة إلى ايران، وهي: خط إمداد إلى «حزب الله» لتزويده الأوكسيجين العقائدي والدم العسكري، ممر إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، حديقة خلفية لـ «دولة العراق الإيرانية»، وموطئ قدم في المزارات الشيعية قرب دمشق و «شرعية سنية» في عاصمة الأمويين، إضافة إلى إمكان ترك جبهة الجنوب مفتوحة، للتمسك بـ «خطاب الممانعة» كذخيرة خطابية. ويمكن التفكير أيضاً باحتمال مد خط أنبوب غاز من إيران إلى العراق و «سورية المفيدة» وصولاً إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.

مناطق نفوذ

ويرمي البدء بتنفيذ الخطة البديلة إلى إغراء الأطراف الإقليمية الأخرى بالبحث عن مناطق نفوذ. أي أن تصبح مناطق شمال سورية في حلب وإدلب ضمن مناطق النفوذ التركي، فيصبح محافظ إدلب أو حلب والياً مستقلاً بعلاقات اقتصادية وبشرية واجتماعية عابرة للحدود في جنوب تركيا. وهنا، لا بأس في أن تكون الفصائل الإسلامية هي الأساسية في المكاسب التي حققتها المعارضة في الأسابيع الأخيرة. أصلاً، هذه الفصائل مقتنعة بإمكان إحياء «الخلافة الإسلامية» التي انتهت بانهيار الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن الماضي. وامتداد هذه الأقاليم شرقاً مرتبط بالوريث القادم بعد «داعش» ومدى إمكان ولادة شيء عقلاني من هذا الجنون. ولم تكن صدفة أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إيران جاءت في بداية الشهر الجاري بعد سيطرة المعارضة على مدينة إدلب وقبل سيطرتها على جسر الشغور.

الخطة البديلة، تفتح الباب أيضاً أمام ارتقاء الإدارات الذاتية الكردية الثلاث في شمال سورية وشمالها الشرقي الى حافة الكيان المستقل. ويصبح رئيس «الاتحاد الديموقراطي الكردي» صالح مسلم حاكماً بأمره لهذه المناطق بقوة عسكرية وأمنية واقتصادية على أن تبحث لاحقاً عن علاقات وتعايش مع الكيانات الأخرى.

في الجنوب، تبدو المعادلة أكثر تعقيداً. إلى الآن، يبدو أن «مثلث الجنوب» واقع تحت دائرة النفوذ الأردني واجهة النفوذ الخليجي. وبدا واضحاً أن هناك أولويتين هنا: منع تمدد «داعش» من جهة ومنع استقرار «الحرس الثوري الإيراني» قرب حدود المملكة الأردنية الهاشمية. وإذ نجح مقاتلو «الجبهة الجنوبية» في «الجيش الحر» بصد الهجوم الإيراني وفتحوا معركة ضد المتشددين الإسلاميين، فإنهم يقدمون أوراق اعتماد للنجاح في معارك أوسع ودور أكبر على مستوى سورية، خصوصاً أنهم بقوا متمسكين في خطابهم بحبال الحل الوطني في سورية وبخطاب عقلاني يسعى إلى بقائه خياراً احتياطياً للحل وتطمين الدروز الموجودين على مرمى حجر من أبناء حوران.

مسؤول غربي متابع لتفاصيل ما يجري في سورية، قال إن «انتصارات المعارضة الأخيرة مهمة، لكن طبيعة الفصائل المنتصرة مقلقة في الوقت عينه». وأضاف: «يجب إقناع إيران وروسيا بالحل في أسرع وقت. إذا لم توضع سورية على سكة الحل خلال فترة قريبة من العام ٢٠١٥، يجب أن ننسى الحل السياسي إلى فترة ليست قصيرة».

ما لم يقله هذا المسؤول، أن مصير سورية مرتبط بمصير المنطقة التي تشهد انهيار النظام الإقليمي القديم والصراع لصوغ نظام إقليمي جديد وسط انهيار واضح في المفهوم القديم للدول داخل حدودها وخارجها، وانهيار للدول المركزية والهويات الوطنية وبروز الأقاليم والهويات الصغيرة.

 

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى