صفحات سوريةعمار ديوب

سورية: من الشمولية إلى الأرض المستباحة/ عمّار ديّوب

 

 

حُكمت سورية بنظام شمولي ناهب فرض حضوراً إقليمياً إشكالياً. لم يترك حيزاً فيها وإلا وجُعل أرضاً للنهب والفساد والقمع. وحين تساوت الحياة بالموت، كانت الثورة. مدّ نفوذه إلى العراق بآلاف الجهاديين بعد 2003. أقام تحالفاً أبدياً مع نظام الولي الفقيه مبتعداً بذلك عن العالم العربي. اعتبر الأردن بلداً هامشياً وسفراؤه فيه لم يقيموا أي وزن له (لا سيما بهجت سليمان). أما لبنان فهو بمثابة حديقة خلفية للنظام، وقد غزاه بوكالة حصرية دولية وعربية، ولم يترك مناسبة لإحداث الصدامات بين فئاته إلا استغلها، معيداً صياغة النظام الطائفي بما يتوافق مع مصالحه.

تبدت أكثر ما تبدت الشمولية والنهب في سورية ذاتها، حيث نهب القطاع العام، فهمشت مؤسساته، وألحقت بها كافة مؤسسات الدولة، فلا هامش للاستقلالية عنها. في دائرة التعليم، منع أي نشاط سياسي للطلبة منذ شكلت السلطة جبهتها التقدمية، والتي كانت مجرد ديكور على ديموقراطيتها الشعبية الفذة والخاصة بها. في عقود الحكم الأربعة والنيف، تحالف معها أثرياء المدن الذين ارتضوا شراكتها وكبلتهم بكل أنواع الصفقات وأغرقتهم بالفساد. ومنعت التنمية عن مدن الساحل لتدفع بشبابها للالتحاق بالجيش ودوائر الأمن والوظائف الهامشية في مؤسسات الدولة. وضربتِ الكرد ببقية القوميات في شمال سورية. وأغلقتِ ملف الثمانينات من دون أن تعالجه بعد فوزها بالحرب، فتراكمت عقود من عدم الثقة بين الطوائف، لا سيما السنة والعلويين، حيث كانت الحرب ذات طبيعة طائفية. وحين حدث الصدام بين بدو السويداء ودروزها أرسلت دباباتها وقتلت قرابة ثلاثين من الدروز، ولم تقم صلحاً ينهي أسباب الخلاف.

الأمر ذاته حصل في منطقة القدموس بين العلويين والاسماعيليين، وبين العرب والكرد أثناء انتفاضة الكرد في 2004. ثم ثبّتَ النظام كبار رجالات الأمن والجيش من الطائفة العلوية لكونهم موضع ثقة وليس لكونهم علويين، فظهر الحكم وكأنّه علوي. وسهّل بناء المساجد حتى قِيل إن سورية بنت في العقود الأربعة مساجد أكثر مما بنت كافة الدول العربية بما فيها المملكة السعودية. وحين غزت أميركا العراق بعد دخول الأخير الكويت أرسلت قواتها للمساندة. وفي 2003 وبعده تبرعت السلطة بكثير مما تملكه عن القاعدة للأميركيين. وحين عصفت بها الرياح بعــد مقتــل رفيـــق الحـــريري سحبت جيشها، وتم نقل أموال كبار المتحكمين بالحكم إلى تركيـــا، وعادت واسترجعتها إلى سورية وبعض دول أوروبــا الشرقية حالما اشتد الخلاف بينهما. وحين حشدت تركيا قواتها على الحدود كي تنهي مدّ الكرد الأتراك بالكرد السوريين والمطالبة بتسليم أوجلان، رحّلت الأخير من سورية. وبعد عام 2000 فتحت المجال واسعاً لحركة المنتديات ولكنها عادت وأغلقتها وسجنت أبرز دعاتها.

هذا النظام ألغى دور الشعب كلياً، وابتذل كافـــة التيــــارات الحــــداثية حيث أفرغ المؤسسات الثقـــافية من فاعليتها بدءاً بالمسرح والسينما وانتـــهاء بالأحزاب السياسية الحداثية والتي أصــبحت مجرد «عواجيز» تنتظر الموت، وطاول ذلك حزب البعث فجُعل حزب السلطة والطريق إلى تلبية الحاجات الشخصية، وفي الأزمات تُحوّل خلاياه إلى كتائب للقتال. المؤسسة الدينية بكل مذاهبها تلوثت بالفساد ووظيفتها السياسية تمجيد السلطة والدعاء لديمومتها.

لكن رياح الثورات العربية، حركت في الأجساد السورية روحاً محتجزة، نامت طويلاً على الضيم والفقر والذل، فكانت البدايات. ومع أن تلك الأرواح كانت مطالبها بسيطة وتحددت بتغيير المحافظين ورجالات الأمن الرئيسية والسماح بالحريات، اعتبر النظام الثورة فتنة طائفية، أي رفع وتيرة الحساسية وعدم الثقة بين الطوائف، ودفعها نحو الطائفية والجهادية. اعتبرها مؤامرة إمبريالية، أي نزع عنها المحلية والوطنية وألحقها بالعدو، أي بأميركا وإسرائيل وبخارج ما. واخترع قصة بندر بن سلطان، فصارت ثورة إسلامية وممولة. وعلى الأرض تبنى سياسة فصم الطوائف عن بعضها، وكرّس وعيّاً مفاده أن الأكثرية ستنقض وتفتك بالأقليات وليس للأخيرة من ملاذ إلا هو.

لم تفند المعارضة كل هذه الأدلوجة، بل ساهمت في تكريسها، لا سيما حينما أدخلت فيها الإخوان وهم من يتحمل جزءاً من مسؤولية الثمانينات. فهم بالوعي المكرس جزء من تلك المشكلة وجزء من أسباب اشتداد الشمولية بعد الثمانينات. وفي المرة الثانية حينما اعتبر المجلس الوطني جبهة النصرة فصيلاً من الثورة، ولاحقاً حين لم يفهم أن أميركا تتدخل لأسباب تخصها وأن هدفها ليس إسقاط النظام بل إعادة تأهيله.

سورية المحكومة أمنياً، قتلت سلطتُها الكثير الكثير من روح الثورة السلمية، وسهلت دخول الجهاديين، هي وتركيا وأوروبا وأميركا وروسيا وإيران والعراق. لقد استبيحت الثورة وسورية بالجهاديين، وتعاظم شأنهم وأكملوا قتل الناشطين المدنيين، من إعلاميين وجيش حر ومدنيين أحرار مؤمنين وغير مؤمنين. ومع خلافة أبي بكر البغدادي، أصبح الخطر ليس على سورية وليس على دول المنطقة، بل صار عالمياً. وبذلك أصبحت الذريعة تجذب التدخل العسكري الأميركي وتحالفه. وبذلك أيضاً قادت الشمولية سورية لتكون أرضاً مستباحة من كل جهاديي العالم ودوله كذلك.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى