سلامة كيلةصفحات سورية

سورية: هجاء السلاح


سلامة كيلة *

هذا هو عنوان كتاب للصديق حازم صاغيّة، كنت في اختلاف مع منطقه فيه، حيث أنني مع كل مقاومة مسلحة للاحتلال، ولهذا «أمدح» السلاح. لكن ما جعل عنوان الكتاب يصبح عنواناً لمقالي هو ما نشهده من ضجة ترتفع في سورية تدعونا: «إلى السلاح».

الدموية التي تمارس بها السلطة، والعنف الذي يطاول الشعب، والقتل اليومي، كل ذلك يدفع إلى تجاوز العقل نحو الغريزة، التي تفرض الرد بالطريقة ذاتها. هذا وضع طبيعي في أتون الصراع، ولهذا يميل قطاع من الشباب إلى السلاح، أو يستسهل البعض استخدام السلاح. لكن حين تتعلق المسألة بمن ينشط في السياسة، أو يدّعي التمثيل السياسي، يكون الأمر في غاية الخطورة، وأيضاً الجهل. فالسلاح الذي يعطى كلعبة للأطفال هو ليس لعبة، بل هو أكثر شيء لا يمكن أن يكون لعبة.

«المجلس الوطني» يقرر الانتقال إلى السلاح. ويجري الضغط من أجل أن يصبح «الجيش الحر» هو أساس المعارضة. والإعلام الداعم يكرر المعزوفة، ليصبح البديل من التدخل الخارجي الذي جرى الترويج له منذ خمسة اشهر، والذي توضّح أنه غير ممكن، وليكون الخيار الوحيد الحاسم الآن.

خمسة أشهر من تضييع الوقت كذلك؟

ربما أسوأ. فالفكرة يجرى تداولها في ضوء نجاحات تحققت عبر استخدام السلاح، حيث ساهم ذلك في استمرار التظاهر وتوسعه من خلال شلّ نشاط أجهزة الأمن والشبيحة، وبالتالي توفير الظرف لتظاهرات كبيرة ومستمرة. وكانت هذه الخطوة تطوراً مهماً في مسار الانتفاضة. وهذا أوجد حالة من النشوة، بدأت تُدفع إلى أبعد من هذا الدور للسلاح، ليصبح هو أساس الصراع ضد السلطة، وليصبح «الجيش الحر» هو المنقذ هذه المرة من كل قوة التدمير التي تمارسها السلطة. وليظهر كبديل من الانتفاضة، ومن سلميتها، وشعبيتها. ويتحوّل الصراع إلى صراع جيش ضد جيش في ظل معادلة صعبة. فالجيش هو الذي ينشق منه جنود وضباط، ويعيش حالة توتر عالية نتيجة الوضع الذي يُفرض عليه من السلطة. وكل ما يمكن أن يتشكل الآن عسكرياً هو مجموعات صغيرة، سواء من المنشقين عن الجيش أو من المدنيين، وهي غير قادرة مهما كان تدريبها على أن تواجه جيشاً يمتلك كل أنواع الأسلحة.

المشكلة تتمثل في أن كل الذين يدعون إلى التسلح والحرب لا يمتلكون أي فهم بالحرب، وهم يتعاملون مع المسألة كـ «فزعة عرب» أكثر مما يتعاملون معها كعلم هو أساس الانتصار، وليس جرأة المقاتلين التي لا تؤدي وحدها إلى شيء فعلي. فأكثر ما يمكن في وضع كالوضع السوري هو تشكيل مجموعات صغيرة نتيجة التفوق العسكري الكبير لدى السلطة. وهذا ما أفاد في دعم التظاهرات، أما حينما أصبح الوجود مكشوفاً فقد أصبح من السهل تدميره بكل الوحشية التي تمارسها السلطة.

في وضع كوضع الانتفاضة السورية كان يمكن أن تتحوّل الانتفاضة الشعبية إلى انتفاضة مسلحة فيما توافرت قوة سياسية لديها إستراتيجية واضحة منذ البدء، حيث تدفع إلى أن يحمل الشعب السلاح. لكن في وضع غياب القوى السياسية المنظمة، سيميل قطاع إلى التسلح بينما يميل آخرون إلى التخلي عن التظاهر والنشاط «السلمي» لأن السلاح فرض تحوّل الصراع إلى صراع عسكري، وأيضاً سيدخل على الخط كثير من الموتورين والعصابات و «مستغلي الحروب»، يهددون الشعب ذاته… تسلب وتقتل وتفرض «منطقها» (الأصولي أحياناً). وهو ما يسمح للسلطة بأن تخترق الانتفاضة وتعمّق التخريب فيها لكي تفشل. هذا ما يشار إليه اليوم في أكثر من مدينة أو منطقة.

بالتالي ليس رفض التسلح هو نتيجة «ميل مسالم»، أو اقتناع بـ «السلمية»، بل نتيجة كونه لا يوجد ما يجعله ممكناً. وهو غير ممكن في الوضع السوري في شكل كبير. وأصلاً لم تنجح كل الحروب المسلحة ضد النظم، لأن قوة السلطة تبقى أكبر. وظل إسقاط النظم معتمداً على قوة الشعب. الحروب الأهلية فاشلة ومدمرة وفق خبرات كل الشعوب، والنظم هي الأقوى فيها. ولن يختلف الوضع الآن، في هذه المسألة، عما حدث بين عامي 1979 و1982 خلال صراع الإخوان المسلمين مع السلطة. ولا يفيد هنا كل هذا الزخم الشعبي القائم الآن، لأنه سيتلاشى مع تحوّل الصراع إلى صراع عسكري. لكن يبدو أن الإخوان المسلمين يريدون تكرار الجريمة القديمة بأخرى جديدة، وينساق معهم بعض المتسرعين للوصول إلى السلطة، الذين يضمهم المجلس الوطني، الذي لعب دوراً سيئاً في توهيم المنتفضين بأن التدخل العسكري الخارجي قريب، فدفعهم للتقدم بأسرع مما كان يفرض الواقع، ليجدوا أنفسهم في «مصيدة» السلطة، هذه السلطة التي كانت تدفع منذ البدء لتسليح المنتفضين كي تكرر سيناريو تلك السنوات من الثمانينات من القرن الماضي. وهي اليوم تنفذ الخطة ذاتها التي طُبقت عامي 1980 و 1982 في حماة. وهو ما يعيد إنعاش الأمل لديها بحسم المعركة بعدما وصلت إلى حالة عميقة من اليأس.

لهذا يجب «هجاء السلاح»، وما نريده هو سحب الجيش من سيطرة السلطة لكي تنكسر، ولا نريد تحويله إلى قوة قتال معها. هذا ما يحتاج إلى جهد حقيقي. فما دام معها لن يكون ممكناً تشكيل جيش يستطيع «هزيمته» في الوقت الضروري لانتصار الانتفاضة، بل إن أي عسكري حقيقي يعرف أن ذلك يحتاج إلى سنوات لا تحتمل الانتفاضة انتظارها.

بالتالي اللعب بالسلاح سهل، لكنه يحرق الانتفاضة. ومن ثم لا بد من أن يبقى وفق الحاجة التي يفرضها التظاهر والحراك الشعبي، على رغم دموية السلطة، هذه الدموية التي تهدف بالضبط إلى دفع المنتفضين تحت وطأة الدم المسفوك إلى «الخطأ» هذا، حيث تجرّهم إلى «ملعبها»، وفي ظل ميزان قوى هو حتماً لمصلحتها.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى