أكرم البنيصفحات سورية

سورية والحنين إلى النضال السلمي/ أكرم البني

 

 

بعد أن طغى العنف وتجبر، وكاد الناس ينسون النضال السلمي، تبدو حالةً غريبة ومفاجئة صورُ التظاهرات الشعبية وهي تعود في غير منطقة من أرياف دمشق وحماة وإدلب، وكأن الزمن رجع سنوات إلى الوراء، إلى مشهد وسم حياة البلاد في الأشهر الأولى من انطلاق ثورتها.

صحيح أن هذه التظاهرات بدت بسيطة ومحدودة واقتصرت على أيام الجمعة في الأسابيع القليلة المنصرمة، وصحيح أن عدد المتظاهرين قليل ولا تجوز مقارنته بتلك الحشود التي عمت معظم المدن والبلدات قبل أن يحاصرها القمع ويحطمها، لكن كان لافتاً تراجع الشعارات الاسلامية والرايات السوداء في هذه التجمعات أمام تقدم الشعارات القديمة عن الحرية والكرامة والشعب الواحد، مثلما كان لافتاً ظهور إشارات متعمدة لروح الالفة والتضامن، ربما لأن هذه القلة لا تصدق أنها تجمعت من جديد وعادت لتهتف وترفع شعاراتها، وربما لأنها تدرك بأن ما تقوم به يشكل تحدياً كبيراً في مواجهة حملة السلاح وقد باتوا كثراً ويحاصرونها من كل حدب وصوب ولن يتورعوا عن ممارسة أشد أنواع القمع والقهر لإخراسها.

تحار من أين تبدأ في تفسير هذه الظاهرة وتحديد أسبابها، هل تتعلق بشوق وحنين إلى ماضٍ كانت فيه حشود الناس وشعاراتها ترسم حدود التغيير وآفاقه في البلاد؟ أم ترجع إلى النتائج المأسوية التي نجمت عن عسكرة الثورة والثمن الباهظ لاستمرار الصراع الدموي؟ أم هي وجه من وجوه الرد على دور العنف في تنحية الحقلين المدني والأهلي وفي تمكين التنظيمات الاسلاموية المتطرفة من خطف إرادة التغيير وتشويهها وتحويل مناطق واسعة من البلاد إلى ما يشبه الخربة الإنسانية؟ أم هي مجرد اعتراض على تسلط وفساد جماعات أخرى من المعارضة تسيطر في بعض المناطق وتعمل على الاستئثار بكل شيء على حساب حاجات البشر وحقوقهم؟ أم لعلها، في المحصلة، رغبة في استرداد روح الثورة ودور الناس في التغيير، وكأن سنوات العنف الدامي شكلت درساً بليغاً أعاد البشر إلى قناعتهم الأولى بالأهمية الحيوية للنضال السلمي، وبأن طريق السلاح والعنف مسدودة ومحفوفة بالتضحيات والآلام المجانية؟!.

من هذه القناة يمكن النظر إلى الانتقادات التي بدأت تتنامى ضد دعوات تسعير العنف المضاد، أو تطعن بالتكتيكات العسكرية التي اتبعتها جماعات المعارضة المسلحة في دخولها مدناً وبلدات سورية ثم تركها عرضة للحصار والدمار من دون أن تترتب على ذلك أية نتائج سياسية، ومن القناة ذاتها يمكن تفسير تواتر المصالحات أو هدن وقف العنف التي جرت ولا تزال بين السلطة وبعض الأحياء والبلدات المتمردة، على رغم تباين شروط هذه «المصالحات» بين منطقة وأخرى تبعاً لموقعها ولطبيعة الوجود المسلح فيها.

في ما مضى تراجع النهج السلمي للثورة تحت وطأة الخسائر الفادحة التي تكبدها الناس من دون أن يقطفوا ثماراً مستحقة لقاء رهانهم، مرة على هذا النهج في استمــالة الفئات المترددة وتعديل التوازنات القائمة وتبديل المشهد اليومي الذي كان يكتظ بصور تظاهرات تمتد وتتسع وتجر وراءها مزيداً من الضحايا، ومرة في استجرار تعاطف خارجي عربي أو أممي يساهم في وقف العنف والقمع المعمم ويفرض مسارات سياسية لمعالجة الأوضاع المتـــفاقمة، وارتفعت وقتئذٍ اصوات تعلن عجز الطريق السلمي عن إحداث التغيير وتدعو للرد على العنف بعــنف مضاد، متوسلة تنامي الجرعة الانفعالية الطائفية وشدة الغبن جراء عقوبات انتقائية حرمت بعض مناطق الاحتجاج من أهم الحاجات الانسانية، زاد الطين بلة الافتتان بما سمي انتصارات ميدانية حققتها العسكرة، ثم الدور الذي لعبته بعض مصادر التمويل في التشجيع على لغة السلاح.

واليوم تبدو الصورة مغايرة، فثمة حالة من اليأس والإحباط لدى الناس من النتائج الوخيمة التي سببها اللجوء إلى السلاح، ومن سلبية المجتمع الدولي وعجزه عن وقف العنف وفرض حل سياسي، والأهم من تحول أهم المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة إلى بؤر لاستبداد جديد أكثر عشوائية وبربرية.

واستدراكاً يصح السؤال، هل لا تزال ثمة فرصة للعودة إلى الروح السلمية، وهل لا يزال بالإمكان الرهان على دور لمعارضة سياسية مستعدة لتحمل مسؤولية نبذ العنف وإعادة بناء ثقة الناس بوحدتهم وبجدوى نضالاتهم السلمية وبقدرتهم على نقلها إلى أطوار مدنية جديدة تحقق لهم أهدافهم وتبعدهم عن مخاطر الاستمرار في تغليب منطق المكاسرة والغلبة، أم فات الأوان على ذلك وبات مصير المجتمع وما وصل اليه رهينة بيد حملة السلاح وما يخلفه ذلك من مخاطر على وحدة الوطن والدولة؟!

هو درس تاريخي عتيق سطرته دماء الشعوب الثائرة من أجل حريتها، بأن لا سبيل لقيام بديل ديموقراطي من طريق القوة والعنف وتدمير دور المجتمع والسياسة، وليس من خيار لحماية قيم الحياة والعدالة ونصرة حقوق الإنسان سوى خيار النضال السلمي والمدني، أياً تكن التضحيات والآلام.

وإحصائياً كشفت أبحاث متزامنة عن الثورات في العالم، أن 25 في المائة فقط من الثورات المسلحة في القرن المنصرم عرفت النجاح، بينما بلغت نسبة نجاح الثورات السلمية في الفترة ذاتها قرابة الـ80 في المائة، وأظهرت هذه الأبحاث أن الكلفة البشرية كانت باهظة للغاية في الثورات العنيفة والعسكرية، حيث بلغت في بعض الحالات مئات الألوف من الضحايا وملايين المشردين، مقابل أعداد أقل بكثير في الثورات السلمية حتى تلك التي تعرضت لقمع شديد ومديد.

وخلصت هذه الابحاث إلى أنه من بين حوالى 60 ثورة ضد الأنظمة في الربع الأخير من القرن الماضي، كانت هناك 20 حالة لجأت إلى الحل العسكري، 4 منها فقط نجحت في التأسيس لمجتمع مدني وحر، بينما نجحت 32 ثورة سلمية من اصل 40، في بناء مجتمعات تتمتع بالحرية وتحترم قواعد الحياة الديموقراطية.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى